الجمعة، 17 أبريل 2015



الجعران

جلست وحيدا فى صالة فندق ليننجراد الواسعة .. ولم أكن أنتظر أحدا .. ولا كان لى صديق أو رفيق فى المدينة .. وكنت قد كتبت رسالة لابنتى .. فلما ذهبت إلى جناح البريد فى الفندق لأشترى الطابع .. وجدته قد أغلق .. فوضعت الرسالة بجانبى على الكنبة الجلدية .. وأخذت أتطلع من مكانى إلى حركة الداخلين والخارجين من الباب الكبير ..
وكان الثلج يتساقط بغزارة فى الخارج وحركة النزلاء قد خفت فى أرجاء بهو الاستقبال .. فلم تكن هذه الساعة من الليل .. ساعة سفر لقطارات أو طائرات إلى أى مكان ..
وأخذت عيناى تنفذان من الجدران الزجاجية إلى الأنوار القوية التى تكون دائرة براقة الاشعاع على مدى ثلاثة فراسخ ..
كانت الساحة خارج الفندق مغمورة بالنور .. وكان القمر فى المكان الذى كنت أرى فيه الشمس فى النهار .. فتعلق بصرى به واستغرقت فى التفكير .. ولم أكن قد رأيت قمرا فى ليل روسيا من قبل .. ذلك لأننى لم أكن أتطلع إلى السماء أو لأننى كنت مشغولا بكل جوارحى بما يجرى على الأرض .. فلم أنظر إلى أعلى أبدا ..
لذلك ولاستغراقى فى المنظر الخارجى لم أحس بها وهى تجلس بجانبى على نفس الكنبة ..
وكانت تقرأ فى كتاب تبينت من حروفه أنه ليس باللغة الروسية .. ولم أكن متيقنا أهو بالإنجليزية أم بالفرنسية .. ولكنه لايخرج عنهما بحال ..
ولم اشأ أن أقترب منها بنظرى أو بجسمى حتى لا أسبب ازعاجها ..
وثبت بصرى عليها لحظات فوجدتها مستغرقة فى المطالعة إلى كل درجات الشعور الحسى ..
فلم تكن تشعر بوجودى اطلاقا .. ولعلها جلست على الكنبة وهى لاترى أنى جالس هناك فى الركن الأيمن ..
وهى حالة نفسية تعترى الكثير من الناس فى الفنادق .. خصوصا إذا كانوا مشغولين بأشياء كثيرة فى وقت واحد .. فالعين فى هذه الحالة ترى ولا ترى ..
كانت ترتدى جونلة وبلوزة من الصوف الغامق من لونين مختلفين .. ولكن فى انسجام .. وكانت الجونلة قصيرة .. كزى كل الفتيات الأوربيات فى سن الثامنة عشرة .. فبدت بجانبى نصف عارية بفخذيها الممتلئتين وفى بياض اللبن الخالص ونعومة الديباج ..
كانت ملتهبة الوجنتين محلولة الشعر .. والشعر أسود .. والعينان واسعتان جميلتان فى بريق أخاذ ولون سنجابى مشع ..
وكانت شفتاها الرقيقتان ترسمان حلم فتاة تنعم بالحياة البهيجة .. والسعة فى الرزق ..
وأخذت ترفع بصرها عن الكتاب .. فقلت بالإنجليزية وأنا أمد يدى بالمظروف الذى بجانبى :
ـ أتعرفين الفرنسية ..؟
كان صوتى وحركتى فيهما وقع المفاجأة وعدم التهذيب .. ولكن لم أجد منها النفور الذى أقدره لمثل هذه الحالة ..
فردت بنعومة .. وهى تدير رأسها .. فى حركة خفيفة .. والكتاب لا يزال بين أناملها :
ـ أجل ..
ـ أرجو أن تكتبى لى باللغة الفرنسية .. ما هو مدون بالإنجليزية .. على هذا المظروف ليسهل وصوله ..
فتناولت المظروف .. وأخرجت من حقيبتها قلما .. وأخذت تكتب فى تأن وبخط جميل ..
" الجزائر .. وهران .. شارع لامرتين رقم .... " وناولتنى المظروف وهى تتفحصنى بعينيها الواسعتين ..
وشكرتها .. وعادت إلى الكتاب .. وعدت أرقب الحركة فى بهو الفندق .. ومن حين إلى حين أميل بعينى إلى الكتاب فأجدها مستغرقة فى المطالعة .. ثم طوت الكتاب فجأة وانتصبت .. ودارت نصف دورة أمامى .. ثم مضت خلفى فى الطرقة الطويلة المفضية إلى مكاتب الموظفات فى الفندق .. ودخلت غرفة منها ..
ولم يكن فى الأمر شىء جديد بالنسبة لى .. كنزيل فى الفنادق .. فالحركة عادية ومألوفة ..
وكانت الساعة أمامى تشير إلى التاسعة والنصف .. وكنت بين أن أصعد إلى غرفتى لأطالع قبل النوم .. أو انتظر ساعة .. ثم أهبط لأستمع إلى الموسيقى .. وأشاهد الرقص فى " المرقص " ..
ورأيت أن انتظر .. وكانت الحركة فى صالة الفندق قد خفت تماما .. فنهضت إلى دورة المياه وكانت فى الخلف وفى الطرقة التى مشت فيها الفتاة ..
ولمحت وأنا راجع الفتاة جالسة فى مدخل الغرفة التى شاهدتها تلجها من قبل .. وكان باب الغرفة مواربا فاستطعت أن أرى الفتاة وهى تمسح عبراتها بمنديل .. ونكست رأسها فلم تحس بوجودى .. ووقفت لحظات أتأملها فى عجب .. وشجعنى على ذلك خلو المكان .. ثم خشيت أن تتنبه لوقفتى فتحركت وعدت إلى مقعدى فى الصالة ..
وأخذت أسائل نفسى .. هل كنت السبب فى بكائها ..؟
أننى لم أفعل شيئا إذا .. وبعد تفكير طويل برأت نفسى .. ولكنى شغلت بأمر هذه الفتاة الليل بطوله ..
وفى الليلة التالية شاهدتها فى " الباليه " فى نفس الصف الذى حجزت فيه مقعدى رأيتها مع سيدة شابة ورجل فى مثل سنى قدرت أنهما والداها ..
وكانت الفرقة تعرض " بحيرة البجع " ..
وفى الاستراحة بصرت بها فى الطابق الثانى منزوية فى ركن وحدها .. وكانت تخلع حذاءها الطويل العنق الذى يصل إلى الركبة .. كما يفعل غيرها من الفتيات الروسيات .. ورمقتنى بعين ناعسة وخجلى وهى تنزع الجلد الأسمر عن أجمل ساقين لأنثى فى الوجود ..
ولما ذهبت بين الفصول إلى الصالة الطويلة وأخذت أسير فى طابور الجمهور على السجاد الذى يطوق الصالة .. ويكون مثلثا مختلف الأضلاع .. شاهدتها فى الطابور مثلى وراء والديها تلف وتدور على السجاد .. وتفعل هذه الرياضة بشوق وطرافة ..
ولما انتهى العرض .. وجدت الثلاثة فى غرفة خلع المعاطف .. ولم أرهم بعد ذلك فى هذه الليلة ..
***  
وفى الليلة التالية وكنت أجلس على ذات الكنبة فى بهو الفندق .. الفيتها قد جاءت وبيدها تحمل الكتاب عينه بجلدته الخضراء القرمزية .. وجلست تقرأ كعادتها .. ولم تحينى ولم أبادلها كلمة ..
وكنت قد بدأت أشعر بثقل الوحدة وشدة وطأتها على نفسى فى هذا المكان .. فلم تعد المطالعة ولا الأوبرا ولا الأرميتاج ولا الجامعة .. تخفف من ثقلها على نفسى ..
وفى هذا الفندق .. يحدث أمامى شىء فى ساعة معينة من الليل لايتقدم ولا يتأخر عنها لحظة .. فبعد الساعة التاسعة بدقيقة واحدة .. يأخذ الشغالات فى غسل بلاط هذا الطابق الأرضى ورخامه على صورة فريدة ..
وكانت الشغالة فى القسم الذى أجلس فيه تعرفنى من طول ما تشاهدنى فى ذات المكان .. فعندما تشرع فى العمل وتقترب من أدواتها منى .. كانت تقول بالروسية وباشارة تجعلنى أفهم كلامها :
ـ أبق مكانك مستريحا .. ولا تتحرك .. وتمسح وتطوق ما تحت قدمى وكل ما حولى ..
وخطر فى بالى لما لمسته فى هذه العجوز من طيبة وحنان .. أن أسليها بلعبة .. فأخرجت من جيبى حجرا صغيرا على هيئة " جعران " كان قد أهداه لى صديق زار المكسيك وحمله من هناك كأجمل تذكار ..
وكنت أعرف خصائص هذا الحجر النادر على الرخام .. فأخرجته من جيبى ووضعته على الرخام الذى تحت قدمى .. فى اللحظة التى كانت فيها المرأة العجوز تمسح يديها فى مريلتها .. ورأت الحجر يسير وينط فى وثبات مرسومة .. كأنه يتحرك بلولب .. ففتحت عينيها فى ذعر وجلست القرفصاء على الرخام لتشاهد المنظر العجيب عن قرب ..
  ولاحظت الفتاة بجانبى ما يفعله " الجعران " فأخذت تضحك مندهشة حتى التهبت وجنتاها .. ثم تحولت إلىّ وجعلت تتفحصنى بعينيها وطال تحديقها .. فى الجعران .. وفى شخصى .. وخشيت أن يتجمع حولنا بعض النزلاء ويحسبوننى " حاويا " فقلت بالإنجليزية وأنا ابتسم :
ـ هذا يكفى .. الليلة ..
ووضعت الجعران فى جيبى ..
ومضت المرأة العجوز إلى عملها آسفة .. أما الفتاة فانها ظلت تحدق فى وجهى بنظرات قوية ثابتة فى جرأة غريبة .. وسمعتها تقول :
ـ من أين جئت بهذا الجعران ..؟
ـ من مصر .. إنه من آثار الفراعنة ..
وأخرجته من جيبى ..
ـ أتسمح بأن المسه ..؟
ووضعته فى يدها .. وأخذت تتأمله .. كان أسود كالأبنوس المطفى .. وله عينان نفاذتان ..
ووضعته الفتاة على الرخام فعاد يمشى .. فتناولته سريعا فى ذعر .. وعادت تتأمله بعينين تبرقان ..
ومدت يدها تعيده إلىّ ..
فقلت لها :
ـ خذيه ..
ـ آخذه أنا ..!
ـ أجل ..
ـ وتعطيه لى حقا ..؟
ـ أجل .. عندى غيره ..
ـ إذن .. سأضعه هنا على صدرى ..
ووضعته على صدرها لحظات فوق الثدى الأيسر ..
ثم قالت وهى تنظر إلى الجعران :
ـ سآتى بمشبك أو سلسلة .. والأحسن السلسلة وألصقه هنا ..
ولم أفهم الغرض من هذه الحركة على الصدر ..
وظللنا نتحدث حتى أصبحنا وحيدين فى الصالة الكبيرة .. ثم ركبنا المصعد معا إلى فوق ..
وضغطت على الزر الذى يشير إلى الطابق الرابع عشر .. ثم استدركت .. وسألتنى بالإنجليزية .. بعد أن رفعت اصبعها :
ـ وأنت ..؟
ـ فى السابع .. بيننا سبعة طوابق ..
فتبسمت .. وعادت فضغطت على السابع ثم الرابع عشر ..
*** 
وفى الطابق السابع تركتها .. وسرت فى الطرقة الطويلة المفروشة بالسجاد وفى نفسى مشاعر لا أستطيع فهمها .. ولا تحديدها فى جو هذا الفندق .. الساكن على كثرة ما فيه من النزلاء .. فعندما تسير فى الطرقة لا تسمع صوتا ولا همسا .. وعندما تدير المفتاح فى غرفتك وتدخل وترد الباب .. تحس كأنك انفصلت عن العالم بأسره ..
أضأت المصابيح التى فى الغرفة جميعا .. حتى مصباح المكتب .. وفتحت الراديو .. وسمعت أغانى خفيفة وموسيقى هادئة تجلبان النعاس .. ولكنى لم أنم ..
ونظرت إلى المنضدة الصغيرة التى كنت أضع عليها " الجعران " وأتسلى بحركته فى كل ليلة قبل أن أنام .. ولكنى لن أفعل هذا الليلة .. ولا فى غيرها من الليالى .. فقد أعطيته للفتاة التى لا أعرف جنسيتها ولا اسمها .. أعطيته عن رضا بعد أن رأيت عينيها تتعلقان به وتتلهفان عليه ..
أطفأت المصابيح فى الغرفة .. وجلست على الكرسى الطويل المواجه لباب الشرفة الزجاجى ..
وكان جسر من جسور المدينة يتلألأ بمصابيحه الزاهية ..
وفى اليوم التالى لم أر الفتاة فى الصباح .. ولا فى المساء ..
وحدث مثل هذا فى اليوم الذى يليه ..
وكنت معتادا أن أتناول الافطار فى المقصف الذى فى الطابق الخامس .. لأن العاملة هناك تجيد الإنجليزية وتغنى عن التفاهم بالإشارة التى كثيرا ما كانت تؤدى إلى مواقف مضحكة ..
وحدث أثناء جولاتى فى الفندق أن شاهدت بعض النزلاء يتناولون الافطار فى المطعم الكبير بالطابق الأول .. فقلت لنفسى لماذا لا أجربه صباح يوم وأفطر مستريحا وأنا جالس إلى مائدة بدلا من الوقوف فى المقصف ..
وذهبت إلى المطعم فعلا .. وجلست وحيدا إلى مائدة خالية .. وكانت كل الموائد التى حولى خالية أيضا .. فتعجبت .. ولكن زال عجبى عندما جاءت العاملة .. وعلى فمها ابتسامة .. وكانت تعرف الإنجليزية وقالت بلطف :
ـ إن هذا المكان مخصص للمجموعات ..
ـ وأين يفطر مثلى ..!
ـ فى الطابق الذى تحته مباشرة ..
وهبطت السلالم .. فوجدت قاعة فسيحة .. قد صفت موائدها .. وكانت مزدحمة بالنزلاء إلى أقصاها .. فوقفت فى أول درج .. وقد جعلنى الزحام أغير رأيى .. ولكن كان لابد أن أمر بين الموائد لأخرج .. وهنا رأيت الفتاة تتناول الافطار مع والديها .. ولمحتنى وابتسمت .. وحدق أبواها فى وجهى فأدركت أنها حدثتهما عنى وعن " الجعران " ..
وقالت كلاما لم أسمعه فقد خرجت سريعا من صالة الطعام ..
*** 
وفى مساء اليوم نفسه .. وبعد الساعة التاسعة .. كانت تجلس بجانبى فى صالة الفندق على ذات الكنبة ..
وكانت ترتدى فستانا أزرق من قطعة واحدة .. وأطلقت شعرها يغطى جبينها .. وقالت وهى تستدير إلىّ وبيدها الكتاب :
ـ أنظر .. لقد علقته على صدرى ..
ـ جميل .. وعلى صدر جميلة ..
ـ ماما .. أجمل .. هل رأيتها ..؟
وعجبت لفتاة تتغزل فى أمها .. وقلت لها وأنا أكاد أضحك :
ـ أجل .. رأيتها معك فى صالة الطعام ..
   ـ ماما تشكرك على " الجعران " .. وسيدعوك والدى إلى العشاء بعد أن تفرغ من الفحص ..
ولم أكن فضوليا ولذلك لم أسألها عن شىء لم تفصح عنه .. ولم تزعجنى كلمة " الفحص " لولا ما رأيته من الدموع المترقرقة فى عينيها وهى تنطق بالكلمة ..
وقالت وهى مستطردة بعد أن رأت صمتى وحبست دموعها ..
ـ ماما طبيبة ..
وكنت أود أن أسألها عن مهنة الوالد فلا بد أن يكون طبيبا حتى يتزوج طبيبة كالحال عندنا .. ولكن وجه الرجل السمين وعينيه الوادعتين .. كانا يوحيان بالطيبة المطلقة .. وليست هذه صفة الأطباء فى معظم بلاد العالم ..
وهذا الرجل الطيب قد أهداه الله بأجمل امرأة .. وكنت لا أراهما إلا معا .. فلم تفترق عنه قط .. وإذا خرجا من باب الفندق وقفت على الباب تساعده على لبس معطفه .. ولف الكوفية حول عنقه .. ووضع القبعة على رأسه .. قبل أن يخرج إلى الزمهرير القاتل ..
وتكون هى فى أبهى معاطف الفراء الفاخرة كأجمل من يخطو على الأرض ..
أما الفتاة فكان يتركانها تتحرك وحدها .. للحالة النفسية التى هى فيها .. ولكن فى دائرة الفندق ..
ورغم الدموع التى كانت تروح وتجىء فى مقلتيها لسبب غير واضح لى .. فانها فى ساعات كثيرة كانت تبدو مشرقة وضاحكة وقد وضعت الغمامة النفسية وراء مسالك تفكيرها ..
وأصبحت هى بعد عشرة أيام كاملة من نزولى فى الفندق تعرف أين أذهب فى الصباح .. وأين أتناول الغداء فى الظهر .. وأين أكون فى المساء ..
ووجدتنى فى العصر فى مكتب البريد الملحق بالفندق أكتب رسالة .. فجلست بجوارى صامتة إلى أن فرغت من الكتابة .. وسألتنى :
ـ لمن الرسالة ..؟
ـ لابنتى .. انها تدرس فى الخارج ..
ـ وتطيق البعد عنها ..؟
ـ أبدا .. ولكنى خضعت لحكم الأيام ..
ـ كم عمرها ..؟
ـ فى مثل سنك ..
ـ هل معك صورة لها ..؟
ـ أجل ..
وأخرجت لها الصورة .. فتأملتها طويلا .. وقالت كلاما كثيرا .. واستمعت إليها صامتا .. فقد حركت الشوق الدفين فى أعماقى ..
كان ثقل الوحدة يطمس كل ما لقيته فى رحلتى من جمال وبهجة .. والشوق إلى ابنتى التى تدرس فى الخارج يعصف بكيانى كله ..
ولقد كانت هذه الرحلة بسببها ومن أجلها .. ولكن كل ما ألقاه من بهجة فى المدن وكل ما مر علىّ من الناس فى شريط الحياة .. لم يكن يحول جيشانه إلى وجهة أخرى ..
وخشيت فى هذه الوحدة المرة أن أتسلى بالنساء والخمر .. فتنقلب حياتى إلى مأساة ..
وكان حظى العاثر يصاحبنى فى كل جولاتى حتى جاءت هذه الصبية ومن يدرى لعلها من أشد حالات الحظ العاثر ضراوة .. فان التعلق بها مسخرة المساخر ..
*** 
فى الساعة الثالثة بعد الظهر وأنا آخذ المفتاح من موظفة الجناح .. واتجه فى الطرقة الطويلة إلى غرفتى وجدت الفتاة واقفة على بابى .. كيف عرفته .. لم أكن أدرى ..؟ وكان وجهها موردا والبسمة المشرقة تعلو الشفتين القرمزيتين ..
وجرت نحوى مندفعة إلى صدرى وصاحت :
ـ لم تظهر الأشعة .. أثرا له .. اضغط على صدرى .. لا أثر له .. لا أحس بأى وجع .. أضغط .. أضغط ..
تدفق من فمها كلام كالسيل .. وهى مدفونة فى صدرى .. وأنا شاعر بالخجل ..
وطوقتها بمعطفى فى حنان .. وسحبتها إلى المقاعد الجلدية الزرقاء الموضوعة فى الطرقة أمام أبواب المصاعد .. لم أشأ أن أدخلها غرفتى التى جاءت ووقفت على بابها ..
كانت فرحتها غامرة وجعلتها فى ثورة عاطفية لا ضوابط لها .. ولكنى هدأتها ..
وبعد أن هدأت رحنا إلى المقصف .. وشربنا عصير التفاح ..
*** 
كانت والدة الفتاة .. وهى الطبيبة .. تتصور أننى أعطيت شيئا عظيما للفتاة أنقذ حياتها .. " الجعران " القطعة الحجرية الصماء هل فعلت بها هذا ..؟
وطمست معالم الورم الخبيث بفعل الايحاء أم بفعل الإرادة .. أم بفعل الحب .. أم بكل هذه الأشياء مجتمعة ..
دعتنى الأسرة مجتمعة الأب والأم والبنت إلى العشاء فى مطعم الفندق ..
ولبيت الدعوة بشرط أن يستجيبوا لدعوتى فى اليوم التالى .. فلا بد أن أحتفل مثلهم بانتصار الفتاة على المرض ..
*** 
اتفقنا اقتصادا فى النفقات ولأن الفندق لا يحمل الطعام إلى الغرف .. أن نأتى بالطعام وبزجاجات الخمر من مخازن البقالة فى الخارج لنأكل ونشرب على هوانا ..
وأعدت الأم المائدة فى وسط غرفتى .. وجلس الأب والبنت فرحين .. وكنت سعيدا بقدوم الثلاثة وسرورهم .. وقبل أن تفتتح الحفلة بشرب الأنخاب .. تذكر الأب الصورة التذكارية وخرج سريعا ليأتى بالكاميرا من غرفتهم ..
وجلسنا ننتظره .. وأخذت الفتاة تحرك الراديو على محطة موسيقية ..
وسألت الأم وأنا أشير للفتاة المنصرفة عنا :
ـ وحيدة ..؟
ـ أجل .. لم ننجب غيرها ..
ـ أنها ذكية .. وفى ظنى متقدمة فى دراستها ..
ـ أجل إنها فى السنة الثالثة فى الجامعة ..
ـ وتدرس الطب ..؟
ـ لا .. تدرس الاقتصاد والعلوم الانسانية ..
ـ ولماذا لم تدرس الطب كأمها .. حدثتنى الفتاة أنك طبيبة ..
ـ أجل .. أننى طبيبة .. ولكنى شكرت الله لأنها اختارت مهنة أخرى غير مهنة الطب ..
ـ لماذا ..؟
ـ إننا نتعذب ونشقى ..!
وقلت فى نفسى أن كل إنسان يعتقد بأنه يشقى فى مهنته .. هكذا الحياة ..
ورفعت وجهى إليها وقلت :
ـ عشت حياتى أكره المرض .. ولكنى أتمناه فى هذه الساعة بعد أن عرفتك ..
ـ لأكون طبيبتك ..
ـ أجل .. من كل قلبى ..
وضحكت عيناها .. وفى غمرة الانفعال من الاطراء مدت ذراعها الأيسر وشدتنى إليها فى ضمة خفيفة ..
وبقيت أتحدث مع الأم .. وعيناى فى أعماق عينيها وأنا أحس بكل كيانى يرتعش ..
شعرت بشوق لأن أضع رأسى على صدرها .. أنا الذى عشت إلى هذه اللحظة كأن لم يضمنى صدر امرأة ..
كانت طويلة فى مستوى طولى .. وأطول من زوجها الطبيب وأطول من ابنتها .. وجسمها الرشيق بكل ما فيه من جمال وفتنة قد طواه رداء عنابى من قطعة واحدة .. وكان الجورب ورديا خفيفا ارتفع إلى نصف الفخذ .. وأبرز ساقين مخروطتين .. كأنما صنعهما ميكائيل انجلو وهو فى ساعة تجل .. وفى قمة براعته .. ثم قطعت بعدها ذراعه .. ـ كما قطعت يد سنمار ـ حتى لا يصنع بعد هذا الجمال شيئا مثله أبدا .. وعندما خلعت قبعتها الزرقاة .. ومعطفها .. شممت رائحة البنفسج من شعر طويل متموج وفى سواد الأبنوس النقى وبريقه ..
ونظرت إلى يديها وأصابعها الطويلة الدقيقة وأنا من فرط الصفاء أرى الدم يجرى فى الشرايين الصغيرة ..
وجاء الزوج بالكاميرا .. وأخذ لنا أكثر من صورة تذكارية وافتتحنا المائدة وأجلسنا الفتاة فى صدرها ..
وأخذت الأم تملأ الكؤوس .. وقالت :
ـ سنشرب جميعا النبيذ أولا .. نخب الفتاة .. وسيشرب الجنتلمان المصرى وزوجى .. الفودكا والكونياك بعد ذلك ..
ولم أكن أطيق الفودكا ولكن كيف أرفضها من يدها .. وامتد الطعام والشراب إلى ما بعد منتصف الليل .. وأزحنا المائدة جانبا ..
واستراح الزوج الطيب على الكرسى الطويل الوحيد فى الغرفة .. وأخذ يدخن .. وكان هو الوحيد الذى يدخن .. وأخذ ينعس قليلا ثم يصحو ..
ودخلت الفتاة إلى دورة المياة الملحقة بالغرفة ثم خرجت تقول :
ـ الحمام جميل .. يا ماما .. وأجمل من حمامنا ..
ـ حقا .. ولماذا ..؟
وهمست الأم فى أذنى :
ـ إن كل جديد يجذبها ..
وقالت الفتاة :  
ـ لونه أزرق .. ويريح الأعصاب ..
ونهضت الأم لترى حتى تؤمن على قول ابنتها بعد المشاهدة .. ووقفت فى وسط الغرفة .. لا أدرى ماذا أصنع ..؟ أأذهب معهما .. إن واجب الضيافة يقتضينى المرافقة .. ولكن ماذا يحدث لو كانت احداهما تريد أن تتزين وحدها أو ...
وقفت مكانى متصلبا .. حتى عادت الفتاة من داخل الحمام وحدها .. وأغلقت الأم الباب وراءها .. وسمعت صوت السيفون ..
وأحسست برعشة ممزوجة بالخجل ..
ووقفت الفتاة بجانبى وأنا أتطلع من باب الشرفة الزجاجى إلى أحد جسور " ليننجراد " وهو يتلألأ بالأنوار الساطعة .. ولم تكن هناك حركة ولا نأمة فى هذا القطاع من المدينة .. وصفت السماء وبدت زرقاء خالية من السحب .. ولم يكن هناك ثلج يتساقط فى الليل ..
ووضعت الفتاة يدها على الزجاج ثم وضعتها على خدى .. وضحكت ..
ـ يدى دافئة ..؟
ـ جدا .. والبرودة فى الخارج ..!
ـ هل أفتح النافذة ..؟
ـ ووالدك النائم ..
وكانت تعبث فى انشراح .. وخرجت أمها فى هذه اللحظة من الحمام فى أجمل زينة .. وشاهدت ابنتها وهى تعبث فابتسمت .. وجلست على الكنبة مستريحة .. فرأيت زاوية من بشرتها بين قميصها وفستانها .. فاحمر وجهى وحولت رأسى ..
ولم أفكر قط فى أن أدنس طيبات هذه الليلة .. على أى وجه من الوجوه ..
كنت أخضع لمجاهل نفسية .. ومشاعر خفية لا أستطيع فهمها .. ولا تقليل أسبابها ..
وفى الساعات الأولى من الصباح أحسست بأننى وحدى ..
وشعرت بمد الحياة فى كل كيانى كانسان حى ..
وشعرت بأنى فى زورق فضى .. يسبح بى فى نهر من العقيق ..




======================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 9 فى يونية 1974 وأعيد نشرها فى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
=======================








سأصنع له تمثالاً

     دخلت « ميرفت » الحجرة رقم 802 تحمل شاى الصباح .. للنزيل الجديد فوجدته قد أستحم وأرتدى بدلته ..
     ووقف أمام المرآة يربط « الكرافته » فتناولتها منه كعادة فتيات الفنادق فى اليابان ..
     وأخذت يداها تلامسان عنقه فى نعومة ومحياها الجميل يفيض بالبشر والإيناس .. وترك لها « تاكاناوا » Tacanawa عنقه فى استسلام ..
      ثم سألها بعد أن فرغت من الربطة :
     ـ لم أرك فى الليل .. ؟
     ـ إننا نترك الفندق فى الساعة الحادية عشرة قبل منتصف الليل .. ويأتى بعدنا الغلمان ..
     ـ كل الفتيات .. ؟
     ـ أجل كل الفتيات فى كل الطوابق .. هذا هو نظام الفندق ..
     ـ ولكنى شاهدت فتيات يبقين إلى الصباح فى فنادق أخرى ..
     ـ تجد مثل هذا فى بيوت الجيشا .. وفى الفنادق الصغيرة فى مدينة طوكيو.. أما فى دايتشى فلا .. !
     ـ تتحدثين كأنك يابانية تعرف كل شىء فى اليابان ..
     ـ أنا يابانية .. ! أنظر إلى الربطة فى عنقك .. هل توجد يابانية تأتى بمثلها.. ؟
     ـ أبدا .. أبدا ..
     وحدق فى عينيها العسليتين الواسعتين .. وفى تقاطيع وجهها الدقيقة ، وكل ما فى قوامها من رشاقة .. فنكست رأسها برهة وهى شاعرة بالخجل من نظراته ثم رفعت رأسها وعادت تستقبل نظراته القوية بنظرات فيها وداعة .. تطلعت إلى وجهه المستدير الصارم وعينيه الضيقتين .. وقامته التى بدت لها أطول من كل يابانى شاهدته .
     وعجبت لعنايتها به وانجذابها إليه دون سائر النزلاء ..
      فمع أنها تعمل فى هذا الفندق منذ أربع سنوات وتقابل النزلاء من كل أجناس الأرض وألوانهم المختلفة .. الرجال والنساء والشباب والشيوخ بيد أنها تعاملهم جميعا كعابرى سبيل ماضين إلى وجهتهم ، وما من أحد منهم ترك فى نفسها أثرا أو حرك عواطف الأنوثة التى فيها .. كلهم كان يشغل الغرف ثم يتركها خالية لغيره ..
      وتمضى الحركة فى الفندق على هذا الوجه الرتيب .. حركة جامدة فى نفسها كحركة المصاعد ، وحركة الباب الدوار ..
     أما هذا الشاب فقد عجبت لعاطفتها نحوه .. ألأنه يابانى وأمها يابانية مثله .. ؟ .. ما أكثر النزلاء اليابانيين فى الفندق .. !
     الواقع أنه حرك مشاعرها عندما حدثها بأنه مسافر إلى مصر .. مصر موطنها وبلد والداها .. التى لم ترها منذ كانت طفلة وقد برحها الشوق إليها ..
     وقال لها بعد أن صبت الشاى ووقفت منتصبة فى زى الفندق الجميل ..
     ـ أجلسى يا آنسه مرفت ..
     ـ الجلوس ممنوع .. !
      وضحك .. وعقب ..
     ـ ولكن الباب مغلق .. !
     ـ إن هذا لا يغير من وجه المسألة فى نظرى .. وأنت تعرف معنى النظام والأمانة فى العمل أكثر منى ..
     ـ أنا أكبرك على هذا .. ولكنى أشفق عليك من هذه الوقفة المتعبة .. !
     فردت فى دمائة :
     ـ لا تشغل نفسك بى .. متى ستسافر إلى القاهرة .. ؟
     ـ بعد عشرة أيام .. ويوم الأثنين سأسافر إلى « هونج كونج » ..
     ـ وستزور أسرتى كما اتفقنا .. ؟
     ـ بالطبع فى شارع القاصد بحى عابدين المنزل رقم .. إنه محفور فى ذهنى ..
     ـ سأعد لك هدايا لتحملها إليهم « سيفرحون بها كل الفرح » ..
     ـ الهدايا ممنوعة .. !
واتخذ وجهه هيئة الجاد ..
     فسألت فى استغراب وقد حسبته يهزل ..
     ـ لماذا .. ؟
     ـ سنمر فى طريقنا على بلاد كثيرة ومنها إسرائيل ..
     ـ ولماذا تذهب إلى اسرائيل .. ؟
     ـ أنا تاجر .. وأتاجر مع جميع الدول ..
     ـ حتى إسرائيل التى تحارب العرب وتقتل نساءهم وأطفالهم .. ؟ !!
     ـ التجارة لا دخل لها بالحرب .. !
     ـ كيف هذا .. ؟! بنقودك سيشترون الرصاصة التى يقتلون بها العربى ..
     ـ ومايوه البحر .. ! إن التجارة لا دخل لها بالحرب ..
     فرمقته بنظرة غاضبة وحملت الصينية وخرجت تهرول ..
     فقال لنفسه :
     ـ ماذا أصنع .. لحماقات النساء .. ؟!
     وبعد خمس دقائق خرج من نفق المترو واتجه إلى حى جنزا ..
***
     ومر على صف من الملاهى الصغيرة التى أسدلت سترها وأغلقت أبوابها .. لأنها كانت ساهرة إلى الصباح ..
ونظر إلى ساعته وهو يخرج من نطاق الدكاكين الصغيرة المغلقة ويتجه إلى شارع جنزا نفسه الذى بلغت فيه الحركة أشدها ..
     وبدت الشمس ساطعة على النوافذ البلورية فى العمارات والمتاجر الكبيرة ، والبالونات القرمزية التى كانت مضيئة وساطعة فى الليل .. أخذ يؤرجحها هواء الصباح الجميل ويمايل بها .. وهى كأنها معلقة فى خيط سحرى كلما دفعها إلى السماء جذبها إلى الأرض ..
     واستيقظت المدينة الضخمة .. وكل شرايين الحياة فى جسمها الكبير أخذت تعمل بنشاط عجيب .. والمشاة يسرعون على الأرصفة كأنهم فى سباق .. والسيارات الكبيرة والصغيرة تمرق كالسهام .. فى الصباح المشمس ..
ومشى « تاكاناوا » على الرصيف الواسع فى مثل سرعته التى اعتاد عليها فى المشى .. وكان يرتدى بدلة بنية كاملة ، ويبدو أنيقا فى هندامة ، والكرافتة التى ربطتها له « ميرفت » زادت من أناقته ..
     وأوقف تاكسيا صغيرا عند التقاطع فركبه وسار به قليلا فى الشوارع ثم نزل منه .. ودخل متجر نياتسو .. وصعد بالسلم الكهربائى إلى الدور الخامس وبعد أن تجول فى هذا الطابق يستعرض ما فيه .. دخل المطعم .. ووجد سيدة يابانية جالسة فى انتظاره وكانت تأكل بعض الفطائر .. وبجانبها على كرسى ربطات كثيرة .. فحياها وجلس يتحدث ولما جاءت العاملة طلب فطيرة وفاكهة ..
     وسأل صاحبته .. وهو ينظر إلى الربطات بجانبها ..
     ـ لماذا لم تدعى هذه الاشياء للمتجر ليوصلها إلى بيتك .. ويريحك منها ..؟
     ـ أين ذهب ذكاؤك .. لابد أن أخرج بهذه الأشياء على صدرى .. !
     ـ حقا أنت أذكى الجميع .. وكيف حال يواناكا .. ؟
     ـ بخير .. وسنقابله بعد الظهر ..
     وجلسا يتسامران كعاشقين .. وناولته جريدة « اساهى » فقلب صفحاتها طويلا ثم عاد يستأنف معها الحديث .. والضحك .. ونهض إلى دورة المياه فى نفس الطابق ..
     وهناك قرأ ورقة صغيرة كانت قد وضعتها فى جيبه ثم مزقها وشد عليها السيفون ..
***
     وفى ليلة السفر التقى تاكاناوا « بمرفت » فى ملهى « السفينة » ثم خرجا يتجولان فى حى شمباسى ويلجان المطاعم والحانات وشربا الساكى ، وتسليا القمار فى الآلات الأتوماتيكية المنتشرة هناك ..
     أمضيا ليلة صاخبة وحافلة بضروب الإثارة .. وفى القطاع من المدينة الذى يكثر فيه اللصوص والأفاقون ..
     وفى منتصف الليل اعترضه بعض الأفاقين ، وتحرشوا به تحت سقيفة الكوبرى .. ليخذلوه أمام فتاته ويسرقوا ما معه من نقود .. ولكنه صرع واحدا منهم بحركة بارعة من قدمه .. ووقف يتحدى الآخرين .. ثم خرج «بمرفت » إلى ضوء الشارع ..
     وقالت له وقد عجبت بجرأته وشجاعته ..
     ـ إن لى خمسة عشر عاما فى طوكيو .. ولم أشاهد هذه الأماكن إلا بصحبتك وأنت القادم من يوكوهاما .. ألا تخاف وأنت وحدك .. ؟ كيف تحمينى من هؤلاء السكارى المتشردين ..؟
     ـ أشعر وأنت معى بأن فى قوة هرقل مضروبة فى عشرين ضعفا ..
     ـ ما أحلى هذا الكلام .. أجئت إلى هذه الأماكن لأول مرة .. !
     ـ شاهدتها من قبل .. أكثر من مرة .. واحببت أن أراها فى ليلة سفرى .. فربما لا تقع عليها عينى مرة أخرى ..
     ـ لماذا .. ؟ ألا تحب أن تجىء إلى طوكيو مرة أخرى .. ؟
     ـ ربما لا يحدث هذا .. إن رحلتى طويلة هذه المرة ..
     ـ كنت أتمنى أن تبقى للغد .. وتزور والدى فى محل الساعات الذى يعمل فيه وتسمع منه كيف أحب أمى اليابانية عندما كان صاحب دكان صغير للساعات بالقاهرة وهاجر معها إلى طوكيو .. ثم أحب طوكيو .. كما أحب القاهرة ..
     ـ تكفينى رؤيتك أنت .. ففيك أرى صورة والدك ووالدتك مجتمعين ..
     كان يشعر فى أعماق نفسه بالرضى والسعادة .. السعادة التى لم يحس بمثلها من قبل ..
     وكانت الأنوار الزاهية تتلألأ أمام عينيه ، وعن شماله ويمينه ، فى الحى الذى يتلألأ فى الليل ويزهو على كل أحياء الدنيا لما فيه من جمال حى جنزا العديم النظير ..
     تحت البالونات المضيئة بكل الألوان الزاهية الجميلة .. وعلى الرصيف الأيمن كانا يسيران متمهلين وكأنما يقومان بإحصاء البلاط الأبيض قطعة قطعة.. ورغم الزحام الشديد .. لم يغيرا من خطوهما البطىء ..
     ووجدته ساهما بعد مرح طويل فسألته ..
     ـ ما الذى تفكر فيه .. ؟
     ـ أفكر فيك فى الواقع « وأود أراك مرة أخرى » ..
     ـ سترانى ..
     ـ أرجو أن يحدث هذا ما دامت هذه إرادتك ..
      وهبطا السلالم إلى محطة المترو ليركبها إلى بيتها .. ووقفا على الرصيف قليلا .. فى انتظار المترو .. وشد انتباهها جريدة أجنبية معلقة على كشك بائع الصحف والمجلات نشرت بصورة كبيرة « وبارزة » حادث الطائرة البلجيكية فى مطار اللد .. فتناولت الصحيفة بسرعة ونثرتها .. وسالت من عينيها الدموع سريعا فى حرقه ..
     وقالت من خلال عبراتها :
     ـ انظر كيف فعل الأنذال يسحبون الجثث على جناح الطائرة ..
     ـ انظر كيف يفعلون بالموتى بعد أن قتلوهم بالخديعة .. أين شباب العرب.. ؟ أين .. ؟؟
     ـ يا للعار .. ؟
     وأخذت تولول ...
     كان يعرف ما حدث بكل التفاصيل ولكن الصورة التى عرضتها « مرفت » كانت بشعة فتجمد وجهه وتناول منها الصحيفة وطواها .. وظلت تبكى وجسمها يرتعش فخرج بها من المحطة .. حتى لا يراها الناس وهى باكية ..
      وقالت وهى تمسح عبراتها ..
     ـ هؤلاء الأنذال الذين أنت ذاهب إليهم لتتاجر معهم .. !
     ـ التاجر يتعامل مع الأخيار والأشرار فى هذه الدنيا ..
     ـ ولا ضير عليك أن تذهب إلى إسرائيل بعد الذى شاهدته من دناءتهم ..؟
     ـ أبدا .. لا ضير علىّ .. واعذرينى ..
     ـ لا تجعلنى أكرهك بعد أن أجد ..
     فتناول يدها صامتا .. ثم أركبها المترو فى المحطة التالية .. واتجه وحده إلى الفندق .. وكانت الريح ساكنة .. ولكن الليل لا يزال صخابا فى المدينة الكبيرة ..
***
     وفى الصباح جاءت تودعه .. وكانت نوبة عملها فلم تستطع مبارحة الفندق ..
     وشاهدته من نافذة الغرفة التى تركها .. يمضى وحده فى الشارع مع ضوء الشمس وبيده حقيبة صغيرة ..
     وغالبت عبراتها ..
     ووعدها بأن يكتب لها يوميا ولكن مضت أيام ولم تأت منه رسائل ولا حتى بطاقات بريد ..
***
     وفى صباح يوم .. وقبل أن يمر أسبوعان على سفره شاهدت صورته فى جريدة « أساهى » صورة كبيرة تشغل نصف الصفحة ..
      وقرأت كل ما فعله فى المطار لينتقم ويثأر فصاحت بالعربية فى جنبات بيتها ..
سأصنع له تمثالا
     وعجبت أنها لم تدمع لها عين ..



===============================  
نشرت القصة فى مجلة روز اليوسف بالعدد 2298 بتاريخ 26/6/1972 وأعيد نشرها فى كتاب  " عودة الابن الضال " سنة 1993
================================


القطار الإنسيابى


  نزل " صلاح " من القطار قبل منتصف الليل بساعة ، وكانت المحطة خالية من الركاب ، والبرودة شديدة والأمطار تتدفق بغزارة ..
ووضع له الحمال الحقائب فى المقهى الصغير الملاصق للمحطة وانطلق يبحث عن سيارة " لصلاح " تقله الى بلدته ..
وجلس صلاح فى ركن وراء الزجاج ينتظر الحمال ويتطلع إلى الطريق الموحل وإلى ما حوله فوجد كل شيء على حاله كما تركه منذ سنوات .. المقهى بذات الحيطان والنوافذ وذات الكراسى والموائد والأكواب .. نفس طابعه العام .. وحتى الجرسون لم يتغير ..
والناس كما هم فى أزياء مختلفة .. بين لابسى بدل عارى الروؤس ولابس زعابيط ولابسى جلابيب وعلى رؤوسهم اللبد والكوفيات والملاحف ويشربون الشاى والقهوة .. ويدخنون السجائر والشيشة ويلعبون الطاولة والضمنة فى زعيق وصراخ ..
ولاحظ أن زبائن المقهى قد تركوا الرصيف العريض فى الخارج .. بسبب البرد والمطر وانحشروا فى الداخل فى حيز ضيق وهم يدخنون بشراهة .. وأحس " صلاح " .. بالضيق من رائحة الدخان والشيشة فى المكان المغلق ، وكان يود لو يجلس على الرصيف لولا المطر والريح ..
وأخذ يترقب عودة الحمال بصبر نافذ وقلق ولما رجع هذا .. سأله فى لهفة :
-          هل جئت بالعربة ..؟
- أبدا .. لا توجد عربات الليلة على الاطلاق .. فالأمطار غزيرة والطرق موحلة منذ ثلاثة أيام ..
فمن السائق الذى يعرض نفسه وعربته للهلاك ..؟
كلهم رفضوا ..!
-          إذن ابحث عن غرفة فى لوكاندة أقضى فيها الليل ..
-          لا توجد غرف .. فاللوكاندة الوحيدة فى المدينة محجوزة طول السنة ..
-          ولا توجد غرفة فى أى مكان ..؟
-          اطلاقا ..
ونقد الحمال أجره ، وهو يشعر بالأسى لسوء الحظ الذى لازمه فى شهر يناير فمنذ هبط من الباخرة والمطر شديد فى كل مدينة يمر بها .. كأنما حمله معه من لندن ..
وكان فى تقديره أن يكف المطر فى الصعيد ولكنه وجد العكس .. ولما لم يجد أحدا من أهله فى انتظاره بالإسكندرية أدرك أن الرسالة لم تصل إلى خالته " نعيمة " فلو كانت تسلمتها لجاءت على التو اليه ومعها ابنها صادق على الأقل ليفرحا به بعد هذه الغيبة الطويلة وأدرك أنه أخطأ فى بعث رسالة بدل البرقية .. ولكنه أشفق على أعصابها ووجد الرسالة أنسب لأنها لا تزعجها كالبرقية .. ولأنه وضع فيها كل التفاصيل ..
وبعد أن يئس من العثور على سيارة أو غرفة قرر أن يبقى فى المقهى إلى الصباح مندثرا بمعطفه ومكتفيا بشرب الشاى ..
وفى الصباح سيبحث عن عربة تحمله إلى قريته بأى سبيل ..
وأراح نفسه بهذا القرار من فترة القلق التى مرت به وأحس بالبرد .. ولاحظ أن الشخص الذى يشغل المائدة المجاورة يشرب الخمر .. وكان يود أن يفعل مثله ولكنه خجل من نفسه ، فقد شرب الخمر فى الخارج ، ولكنه لن يشربها فى بلده ..
ورغم برودة الليل وشدة المطر .. فحركة القطارات فى المحطة لم تتوقف وظل يسمع دوى العجلات على القضبان ، والصفير الحاد .. والرجات القوية .. كلما مرت القطارات السريعة ..
وكانت الإضاءة فى فوانيس المحطة وخارجها قد غشاها المطر ، وكساها بلون أزرق باهت .. بدت كالقناديل المطلية بلون السحاب وكان الاشعاع فى جملته جميلا ومريحا ..
***
وشاهد " صلاح " على مرمى البصر فى الليل الممطر عمارة بيضاء قد غسلها المطر فبدت شهباء فسأل عنها الجرسون :
-          أتوجد شقة فى هذه العمارة ..؟
-          توجد شقق .. كأنها خالية ..!
-          خالية .. أفيها خلل ..؟!
-          أبدا انها أمتن من صخور الهرم ..
-          ما السبب اذن ..؟
-          الناس خائفة .. تسكن ..
ونظر صلاح حواليه يستوضح .. فرأى جاره يبتسم فى وجهه ، وكان قد سمع الحوار فسأله ..
- أصحيح أن هذه العمارة خالية ..؟
- أجل صحيح ..
- لماذا ..؟
- لأن صاحبها الحاج اسماعيل .. سيؤجرها من غير أن يأخذ أكثر من .. الايجار .. فلا خلو ، ولا مقدم ايجار ، ولا حتى تأمين ..؟
- إن هذا يجعل الناس تتسابق اليها ..
- ولكن الذى حصل هو العكس .. الناس لم تعتد على هذا .. فلم تصدق أنه يوجد إنسان يؤجر عمارته على هذه الصورة فتركوها خالية .. كما ترى ..!
- شيء غريب ..!
- فقد الناس الثقة فى وجود الرجل الأمين ، من فرط ما لاقوه ولمسوه من الاعيب الشياطين ..
-          ما كان هذا يدور بخلدى .. وأنا بالخارج ..
-          لفيت طويلا ..؟
-          تسع سنوات متصلة ..
- أوه .. هذا عمر يا بنى ... كنا فى دوامة " رهيبة " .. ولكن مر الاعصار بسلام .. وبعد الهزيمة لم يكن أكثر الناس تفاؤلا يقدر الانتصار .. ولكنا انتصرنا ..
- لقد تجرعنا مرارة الهزيمة ونحن على البعد .. فما بال من عاش فى قلب المحنة .. أعصابكم من حديد ..
- كان الغريب الذى لا يعرف طباع الشعب المصرى يتوقع الانهيار التام ... ولكننا انتصرنا بالجندى الأصيل .. وبالشجاعة الضاربة فى الجذور عبر أعماق التاريخ ، وبالانضباط الدقيق .. والنظام الصارم ..
وسترى بعد أن استردت الأمة روحها أشياء عظيمة .. سترى أناسا مثل الحاج " اسماعيل " يبنون العمارات ولا يطلبون خلوا ، ولا مقدم ايجار ..
ـ سترى هذا .. وسترى الشرفاء فى كل مكان ..
ولهذا عدت من لندن .. لافتح عيادة هنا .. والحمد لله .. سأجد شقة فى عمارة الحاج إسماعيل ..
ـ سيطير من الفرح .. وستكون أنت بداية الثقة .. الحاج اسماعيل خلعوا له ضروسه .. يا بنى .. حتى استكمل العمارة .. عذبوه وهو يشترى الحديد .. والخشب .. والأسمنت .. وحتى الرمل .. عذبوه عذابا لا يوصف .. كان يدفع اضعاف الثمن المقرر وبعد سبع سنوات من العذاب قرر الرجل ألا يعذب الناس كما تعذب هو ..
-          وبكم ايجار الشقة ..؟
-          على الشارع باثنى عشر جنيها ومن الداخل عشرة ..
-          رخيصة جدا .. والموقع جميل ..
- وفوق هذا .. فانه رأى ألا يقيم فى العمارة .. لأن السكان تتضايق عادة من وجود صاحب البيت فى نفس المبنى .. فظل فى بيته القديم ..
- انه عالم نفسى .. خبير بالطباع .. ما هى صنعته ..؟
- تاجر ..
- متعلم ..؟
- أبدا .. الحاج اسماعيل لا يقرأ ولا يكتب ..
- عجبا .. وكيف يكون شأنه إذن لو كان متعلما ..
- كان يشتغل فى التهريب ..!
وضحكا .. وقدم الجار سيجارة " لصلاح " .. وأشعلها له .. فأخذ هذا يدخن ويرسل بصره إلى الخارج متأملا فشاهد من خلال الزجاج فى البناية المقابلة نافذة قد أضاءت فجأة وسيدة تتحرك .. بنشاط ورشاقة .. فخطر فى باله خاطر ولما دخل الحمال من باب المقهى استوقفه وسأله :
-          من .. يقيم فى هذه الشقة المضيئة ..؟
-          واحدة ست ..
-          ألا أجد عندها حجرة .. وسريرا إلى الصباح ..؟
-          انها أرملة وحيدة .. ولا يمكن أن تدخل غريبا فى شقتها ..
-          سأعطيها جنيهات إنجليزية .. ودولارات ..!
-          يا ريت .. اننا فى الصعيد يابيه .. ولسنا فى أوروبا ..
وسمع جاره الحوار فقال مبتسما :
- لو دخلت مزاجها .. ستأويك من غير فلوس .. لا تفكر فى الفلوس دائما كشيء سحرى ومفتاح للأبواب ..!
- أنا أقصـد المـزاح .. ولست بالغريب حتى أتصور نفسى فى بيكادلى .. أنا من هنا ..
- أهلا ومرحبا ..
ودخل معاون المحطة المقهى بزيه الأزرق الرسمى وأزرار حلته الصفراء ولما لاحظ وجود صلاح بحقائبه .. وكان هو الوحيد الذى نزل أمامه من القطار .. سأله :
-          ألم تجد عربة ..؟
-          أبدا .. ولا لوكاندة ..!
-          تفضل عندى " ورديتى ستنتهى بعد ساعة " ..
-          شكرا ..
-          لابد أن نجد لك مكانا .. أنت ضيفنا ..
-          لست بالضيف .. هذه بلدى ..
-          ولكنك ضيف على الأقل هذه الليلة بسبب الجو ..
وكان يشفق على " صلاح " لأن له أبناء قد يتعرضون فى غربتهم لمثل حالته .. وليس من اللياقة أن يظل " صلاح " جالسا فى المقهى إلى الصباح .. وفى الصباح ربما لا يجد سيارة بسبب رداءة الجو ..
ودخل من باب المقهى رجل كهل طويل شعر الرأس يلبس بدلة فوقها معطف قديم .. وسلم على المعاون ثم جلس بجانبه ..
-          تشرب شاى ولا قهوة يا عم سعيد ..؟
-          كنت عند فرج وشربت الاثنين قطر 88 مر ..
-          أجل ونزل منه الأستاذ ..
وأشار المعاون إلى " صلاح " ..
واستدار وحيد .. وسأل :
-          حضرتك قادم من القاهرة ..؟
-          من الإسكندرية ..
-          وهناك مطر ..؟
-          سيول ..
-          لم يحدث هذا .. يا بنى .. منذ سنوات .. نعمة من ربنا ..
وخيم الصمت على الثلاثة ، وأخذوا يدخنون وعيونهم تتقابل فى سماحة وبشر ..
كان وحيد .. نحيفا قلق النظرة هضيم الوجه غير حليق .. يرتدى حلة كحلية بخيوط بيضاء رفيعة .. ذهب لونها من فعل الأيام ، وبرزت أجزاء منها ، تعرضت وحدها للمطر .. من خلال معطف داكن كثير الحشو كثير الفتوق أشبه بمعطف الدرك بعد تسريحهم وكان فى قدميه حذاء اسود عليه أثر البلل ووحل الطريق ..
كان هندامه فى جملته غير مريح للناظر .. اطلاقا ولكن نظرة القلق والأسى والتعاسة فى عينيه ، وحركة شفتيه كانتا تشدان اليه جليسه ..
وقال المعاون وهو ينظر إليه فى عطف :
- الأستاذ وحيد .. اخترع القطار الانسيابى قبل اليابان بعشرين سنة .. ولكنهم اهملوا اختراعه ..
وقال صلاح مواسيا ..
ـ هذا ما يحدث لكل عبقرى ..
قال وحيد .. وقد هيجته الذكرى :
- هل سمعت عن القطار الانسيابى ..؟
- بعض المعلومات القليلة لست بخبير ..
      - حضرتك مهندس ..؟
      - لا .. أنا طبيب ..
      - أهلا .. طبيب يعنى متعلم .. وتفهم معنى كلامى لقد فكرت فى هذا القطار منذ ثلاثين سنة وقدمت التصميم والتكاليف بصورة مبسطة وسهلة .. ولكن ما أحد استمع الىّ .. فكرت فى الفلنكات الجديدة .. وفى اليايات الملتفة وفى الموجى .. وفى الاشارات الاتوماتيكية .. وفى الفرامل الهيدروليك .. وفى الفلين الذى يمتص التراب .. فكرت فى كل هذا قبل أن تراه فى قطارات اليابان والمجر ولكن ما من سميع ..
وقال المعاون فى اشفاق ..
- لقد كنت متقدما على عصرك يا عم " وحيد " .. فلم تكن تصنع فى مصر القطارات وهذا من سوء الحظ ..
- لو استمعوا الى .. كنا صنعناها قبل الهند بعرقنا ودمنا .. واستفدنا من الاختراع الجديد .. وأفدنا ..
فقال " صلاح " :
- التردد يعوقنا عن التقدم .. وكثيرا ما ترددنا فى أشياء فيها الخير لنا وللبشرية .. والعالم اليوم يفخر بالمخترعين ..
ويعقب وحيد بمرارة :
- إنهم خلاصة البشرية .. وخلاصة الذكاء البشرى .. وعندما تفكر فى غرض أسمى ونفع للبشرية لا يفهمك الناس .. لأنهم يعيشون فى الضحالة ويستطيبونها .. ويستكينون إلى البلادة والتواكل ولا يفكرون قط فى تغيير حياتهم إلى ما هو أرقى ..
- ولاحظ " صلاح " أن الحديث عن القطار يثير الشجن فى نفس وحيد فحوله إلى وجهة أخرى ..
واستأذن المعاون ليدخل المحطة ويعود بعد انجاز عمله ..
وبقى وحيد مع " صلاح " يحادثه فى مودة واستراح إلى جلسته وقال ليزيد من صلته به :
ـ الدنيا برد .. هل تسمح أن أحييك بكأس ..؟
ولم يرفض " صلاح " لأنه كان يتوق إلى هذا ويخجل من الشراب وحده أما بعد أن وجد الجليس فلا علة للرفض ..
وطلب وحيد كأسين من البراندى .. ثم كأسين .. وظل يشرب ويلح على " صلاح " فى أن يجاريه ولكن هذا اعتذر بعد الكأس الثانية لتعبه ..
وظل وحيد .. يشرب ويتحدث عن آماله التى انهارت وأحلامه التى تبددت وظهر أثر الخمر فى عينيه وعروق وجهه ..
وسأل فجأة :
-          والقطارات مريحة فى بلاد الإنجليز ..؟
-          جدا والمواعيد بالثانية ..
- كنا نستطيع أن نكون مثلهم .. وأنا فكرت فى تحسين كل شيء فى المصلحة .. الخطوط والاشارات والمحطات والبلوكات .. ولكن كل هذا انتهى الى تصميمات على الورق وذهبت فى الأدراج .. عندما تفكر فى غرض أسمى يخنقك الناس لأنهم حمقى ..!
وسيظلون حمقى .. وتلك هى المصيبة ..
ونظر طويلا إلى حقائب " صلاح " كأنه يعدها ..
وسأله :
-          زيارة .. أم إقامة ..؟
- إقامة .. جئت لأعيش مع خالتى التى ربتنى وعلمتنى بعد موت أبى وأمى ولأرد لها بعض الجميل ..
ـ أنت أصيل يا بنى .. من يفكر فى هذه الأيام فى رد المعروف .. الناس تغيرت .. وصمت يمسح وجهه ثم استطرد ..
-          هل حجزت غرفة ..؟ سمعتك تتحدث مع معاون المحطة فى هذا ..
-          أبدا .. لم أجد ..
-          إذن أنت ضيفى الليلة ..
-          شكرا .. لقد مضى جزء كبير من الليل والباقى سهل ..
-          وهل تضمن وجود عربة فى الصباح ..؟ محال أن نتركك هنا للمقادير ..
اسمح لى سأدخل المحطة واستأذن المعاون وأجئ بسطوحى الشيال ليحمل الحقائب ..
ولم يعقب " صلاح " كان يحس بحاجته الشديدة إلى الراحة بعد هذا السفر الطويل وذهب وحيد وعاد بسطوحى الذى حمل الحقائب إلى بيت وحيد ..
وكان البيت من البيوت القديمة فى شارع ضيق والمهندس وحيد يسكن فى الطابق الثانى .. وفتح وحيد الباب فى هدوء وقال :
-          تفضل ..
فدخل " صلاح " وهو يشعر بالارتباك ووقف فى الطرقة الخارجية ودخل الحمال وراء وحيد ووضع الحقائب فى الداخل وانصرف ..
وبعد دقيقة واحدة سمع " صلاح " وهو واقف فى مكانه صوتا عاليا لأنثى تنادى عليه من داخل الشقة .. وكانت تصيح فى وجه زوجها وتؤنبه لأنه جاء برجل غريب إلى البيت ..
سمع " صلاح " صوتا عصبيا حادا مزق مشاعره وأخجله والزوج يسترضيها بلطف ويحكى لها ظروف الجو .. ولكن الزوجة ظلت ثائرة تزعق ..
ووقف " صلاح " فى مكانه من الردهة الخارجية ملتاعا حائرا لا يدرى ماذا يفعل بعد أن ادخل الحمال الحقائب وانصرف ..
ورجع إليه وحيد بعد العراك مع زوجه .. ووجهه ينضح عرقا فألفاه مسمراً فى مكانه ..
-          تفضل ألا زلت واقفا ..؟
وأدخله فى حجرة رحبة فيها كنبة طويلة وبضعة كراسى موضوعة بنظام ..
وجلس " صلاح " ساكنا واجماً .. وأدرك وحيد .. بما لاحظه على وجه صلاح أنه سمع كلام الزوجة .. واحتار ماذا يصنع ليخفف من وقع المقابلة .. وزاده التفكير فى المسألة ارتباكا وخجلا .. فأخذت رموش عينيه ترتعش رعشات خفيفة وشعر صلاح بالحرج الذى سببه للرجل وتألم لما حل به ..
واستأذن وحيد ليخفى انفعاله وغاب فى الداخل ..
وأخذ " صلاح " يدير عينيه فى القاعة ويفكر فى أن يفتح الباب ويخرج مقلا ويترك الحقائب إلى الصباح ..
ولكن وحيد عاد إليه بعد لحظات وقد تماسك قليلا وسيطر على انفعاله فلم يجد " صلاح " بدا من البقاء على مضض ..
ولما أعدت الزوجة مائدة الطعام فى الصالة .. صفقت لزوجها فنهض وعزم على " صلاح " وكان هذا لا يحس بالجوع بعد هذا اللقاء ولكنه تحت إصرار الرجل مشى وراءه فى صمت إلى المائدة ..
وأكل قليلا مع جودة الطعام ، لأنه كان لا يزال يشعر بالغصة فى حلقه ..
وندم على أنه دخل بيت رجل غريب لمجرد دعوة من فم سكير ..
وبعد أن فرغ من الطعام اكتفى بمسح فمه بالفوطة ولم يذهب إلى دورة المياه فى الداخل لكى لا يزيد من امتعاض الزوجة ولم يكن فى البيت خادمة .. وأدرك بالتخمين أن الرجل لم ينجب وليس فى المنزل سواه هو وزوجته ..
وكان قد سمع زعاق المرأة عندما دخل .. ولكنه الآن لم يعد يسمع لها أى صوت .. كانت تستدعى زوجها بالتصفيق الخفيف .. والقرع الرزين على الباب فإذا ذهب إليها حادثته بصوت خافت أو بمجرد الهمس ..
وكان الصوت فيه أنوثة سخية كان من تلك الأصوات المغردة الشجية التى كان يستمع إليها من مذيعة إنجليزية اختبل بصوتها فى لندن .. وكان حريصا على سماعها كل صباح .. وكانت تحرك فيه عواطف جياشه يعجب لها ويحس بعدها بالنشاط والقوة ..
وكان صوت هذه السيدة التى يستضيفه زوجها أقرب الأصوات إلى صوت المذيعة الإنجليزية وأكثرها التصاقا به .. نفس النفخة .. ودرجة الصوت وطبقته ..
وود بجدع الأنف لو يرى صاحبة الصوت ولكنه لم يقع على وجهها قط إلى هذه الساعة ..
أعدت المائدة قبل أن يدخل إلى الصالة ورفعتها بعد أن أكل وعاد إلى غرفة الجلوس ..
ولما رجع إلى غرفة الجلوس وجد فراشه قد أعد فى عناية ونظافة وتحولت الكنبة إلى سرير مريح عليه غطاء مكوى ناصع البياض ووسادة ناعمة وبطانية صوفية سميكة وشبشب تحت الكنبة .. وفوطة على كرسى .. وزجاجة " كولونيا " ومشط على المائدة ..
رأى هذا وظل فى مكانه على كرسيه لم يخلع بدلته وأحس بالسكون المطلق وبالحاجة إلى النعاس ولكن الاهانة كانت لا تزال تدور برأسه وتعصف به .. ثم تخف حدتها ..
ولعن نفسه لسفره فى الليل والمطر .. ولعن الحقائب التى كانت السبب فى كل هذا ولعن النقود التى يحملها فى جيبه فهى التى جعلته يقبل استضافة هذا الرجل لأنه آنس إليه وقرأ فى وجهه الطيبة ..
ولم يشأ أن يتحرك فى الغرفة حتى لا يحدث صوتا على أى وجه من الوجوه ..
وأحس من الخارج بصوت المطر .. كان المطر يهطل بغزارة .. وسمع مرة أخرى صوت الزوجة التى كانت تهمس .. سمعها تزعق مرة أخرى سمع صوتا حادا اختلط مع صوت المطر .. سمعها تقول :
-          حتى هذا الشاب الغريب .. ستريه خبلك .. سيضحك عليك ..
-          اسكتى ..
وسمع صلاح لعنات أخرى انصبت على رأس الزوج ..
ودخل عليه الرجل كالقذيفة يحمل فى يده مفتاحا ..
وفتح باب يفضى إلى غرفة أخرى وقال لصلاح بعد أن أضاء نور الغرفة تفضل سأريك شيئا ..
ونهض صلاح وأدرك من الفرحة التى ظهرت على وجه الرجل ومن القضبان التى رآها على الأرض والأدوات الميكانيكية المعلقة على الجدران فى نظام دقيق .. أدرك أنها غرفة القطار الانسيابى وأن الفكرة لازالت مسيطرة على ذهن الرجل ووجدانه .. ولم تطمس من رأسه قط وظلت مسيطرة عليه رغم توالى السنين .. وتقدم غيره عليه فى الاختراع ..
وفتح صندوقا كبيرا وبدأ يخرج منه الآلات والعدد ويضع كل شيء فى مكانه بعناية ، بدأ بالقضبان أولا ، مسحها وعشقها وربط الصواميل ... ثم أقام الكوبرى والأعمدة والأسلاك البرقية .. ورفع صنافورين .. وأربع علامات للإشارة الضوئية وبلوك واحد فى بداية المحطة العاصمة ..!
ثم ثبت القطار على القضبان وهو من الحديد والصلب ومطلى باللونين الأخضر والأزرق .. وكانت عجلاته تلمع ونوافذه واسعة وكراسيه الجلدية مريحة ..
وكان القطار الانسيابى كله بتصميمه على شكل الحوت .. ومكونا من ثلاث عربات طويلة بعجلات قصيرة مزدوجة وموجى ويايات ملتفة .. وفرامل أتوماتيكية واجراس انذار ..
وثلاث مضيفات من حور المصريات ..
وبهر صلاح شكل القطار ولونه وجماله ..
وبعد أن فرغ الرجل من ترتيب كل شيء ووضعه فى مكانه مد يده ليريه معجزته ونتيجة جهده وعرقه ..
تناول السلك الكهربائى الموضوع بجوار الحائط ليوصله بالشبكة الكهربائية الدقيقة الخاصة بالقطار فيتدفق التيار ..
وثبت وحيد البريزة وابتسم ولمعت عيناه ببريق غريب وأضاء وجهه كله ..
ووضع يده على محرك القاطرة وضغط ليتحرك القطار كله وهو يصفر ..
وفى هذه اللحظة الحاسمة انقطع التيار الكهربائى وشمل البيت جميعه الظلام ..
ولم يبصر صلاح الدموع التى انسابت على خد الرجل لشدة الظلام ..
كان عذابه لا حد له ..
وأدرك صلاح كيف تتضافر الظروف على سحق الرجل وتعذيبه .. أنه لم يجد الثقة مواتية من أحد .. ولا حتى من زوجته شريكة حياته .. فقد كانت هذه تسخر منه وزادت من تحطيمه ..
قال له صلاح ليشد من أزره ..
-          سيعود النور بعد قليل وسترى القطار ..
ولكن وحيد لم يرد ..



======================== 
نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 14 فى نوفمبر 1974 وأعيد نشرها فى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
======================= 




اسم القصة                       رقم الصفحة 
الحارس         .....................   4
الابن الضال     ...................     14
صوت البحر   ......................   32
المفتاح  ............................   51
طلقة فى الظلام   ..................    59
القطار الأزرق            ..........    71
السن الذهبية  ............     ......  85
الورقة المطوية  ...............        90
الكمنجة  ............................   94
الرسالة  ............................   103
الرجل الصامت     ...................  111
الغزال    ............................. 116
الجعران   ...........................  134
سأصنع له تمثالا  ....................  148
القطار الانسيابى   ...................  155

...    59
القطار الأزرق            ..........    71
السن الذهبية  ............     ......  85
الورقة المطوية  ...............        90
الكمنجة  ............................   94
الرسالة  ............................   103


















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق