الجمعة، 17 أبريل 2015



القطار الأزرق
   

          

       التقيت " بنادية " لأول مرة بفندق أوكرانيا فى مدينة موسكو ، وكانت واقفة فى الصف أمام عاملة المقصف ، وتحاول أن تجعلها تفهم بالإشارة وبكـل وسائل التعبير ما تريده من أصناف الطعام ولم تنفع هذه الوسيلة ، فتلفتت نادية إلى ناحيتى وأشارت إلى الأطباق التى أمامى على المائدة لتأتى لها العاملة بمثـلها تماما ..

    ولما تناولت الطعام من فوق الرف واستدارت ، بحثت بعينيها عن مائدة خالية ، فلما لم تجد ظهر عليها الضيق ، فلوحت لها بيدى لتتفضل وتجلس إلى مائدتى ، فجلست تأكل افطارها صامتة بعد أن عبرت لى عن شكرها بهزة خفيفة من رأسها .
    وتصادف بعد ذلك ركوبنا المصعد معا وهو صاعد ونازل فى طوابق الفندق ، وكانت تفتح عينيها السوداوين على سعتهما وتحدق فى وجهى كمـا كنت أفعل مثلها فى صمت دون أن نتبادل كلمة واحدة .
    وتقابلنا ساعة الظهر فى " الجوم " وكانت مع رفيقة لها فى مثل أناقتها وشبابها وحيويتها ، ومع أن رفيقتها بدت لى روسية خالصة .. ولكنهما تاهتا مثلى فى طرقات المتجر ، فقد كنا نلف جميعا وندور فى هذا التيه دون أن نهتدى إلى باب الخروج .. وكلما تقابلنا ابتسمنا ابتسامة تجمع بين المرارة والعجز ..!
     وكنت كلما رأيتها نسيت ما أنا بسبيله .. وأشعر بأنى سأظل على اتصال دائم بها كلما تحركت فى قلب المدينة الكبيرة ، وأن صورتها لن تبرح خيالى أبدا ، وبدا لى جليا أنها تدعونى ولا تستطيع التعبير عن ذلك بالإشارة ولا بالكلام .
    وفى صباح يوم وقفت على باب المصعد فى الدور التاسع كعادتى لأنزل إلى الطابق الأرضى وكان السهم يشير بأنه نازل .. فضغطت على النور ، ولما وصل طابقى وفتح الباب ، وجدته ممتلئا كله بالنساء من المضيفات اليابانيـات وغيرهن .. وليس فيه موضع لى .. فبقيت مكانى .. وأشرت للعاملة فى أسف .. بأن تواصل طريقها فى النـزول .. ولكنها لم تفعل وظل الباب مفتوحا ..
      وسمــعت صوت نادية من الداخل يردد مع صوت العاملة :
     ـ تعال come .. بالإنجليزية ..
     فدخلت وسط هؤلاء الفتيات وأنا شاعر بالخجل ، وظللن يضحكن ويزقزقن كالعصافير حتى وصلنا إلى الأرض ..
     وخرجت من الفندق بصحبتها فى هذه المرة ، وأصبحنا نتجول فى المدينة معا ، وسرنى أنها تجيد الإنجليزية ، فقد تعبت من الحديث بالإشارة وأنها ذاهبة إلى " ليننجراد " مثلى .
    قالت لى أنها " فنلندية " ومسلمة وتشتغل مدرسة علم نفس وجاءت إلى روسيا فى عطلة دراسية لتـزور صديقة لها فى طشقند .. بدعوة منها .. وبعد أن توافر لها المال ..       
     وحدثتها بأننى التقيت منذ أكثر من ثلاثين سنة ، على التحقيق ، بسيدة "فنلندية " مسلمة وشابة مثلها .. على ظهر باخرة رومانية .. ونزلنا فى "استانبول " .. وقضينا ليلة جميلة على ضفاف البسفور ..
     وسافرت هى إلى " فنلندا " .. على أن تكتب لى .. وأعطيتها عنوانى فى كونستنـزا ، وبودابست ، وفينا ..
     ولكن بعد وصولى بيومين اشتعلت الحرب فجأة فى أوربا عام 1939 ، فعدت سريعا إلى مصر ، وانقطع بيننا كل اتصال .. ولا شك أنها قدرت موتى كما قدرت موتها ..
     وقالت " نادية " بعذوبة :
     ـ قد يكون تقديرك مخطئا ..
     ـ وقد يكون صائبا .. وقد تذكرت هذه السيدة الآن بحنان وشوق عندما رأيتك ..
     ـ الأنى فنلندية ومسلمة مثلها ..؟
     ـ أجل .. فكنا نتحدث معا بالإنجليزية أيضا كما نتحدث الآن فى طلاقة وود ..
     وكنت أبحث عن أفلام " للكاميرا " فاضطررنا أن نذهب إلى شارع "جوركى " .. وكان البرد شديدا والثلوج تتساقط بغزارة ، فأشفقت عليها فى هذا الجو ونحن نعبر الشارع إلى المتجر ..
     ثم خرجنا لنتغدى .. واتفقنا فى ساعة الغداء على أن نسافر فى الغد إلى "ليننجراد " ..
     وقضينا نهار السفر معا نتسوق بعض الأشياء ونودع معالم المدينة الجميلة..
     وكان القطار المسافر إلى " ليننجراد " يتحرك فى تمام الساعة الثامنة مساء .. فوصلنا المحطة والثلج يتساقط والبرودة تحت الصفر ب 25 درجة .. وكانت " نادية " متدثرة بمعطف سميك وتغطى رأسها بقبعة زرقاء وفى يديها القفاز الصوفى ، ومع ذلك خفت عليها من هذا الجو الثلجى .
     ووقفنا على الرصيف نرتعش من البرد ، وكانت المحطة خالية من الركاب تقريبا .. لأننا قدمنا قبل موعد السفر بمدة طويلة .
     وأشفقت علينا موظفة مسنة فى المحطة ، فأدخلتنا قاعة انتظار الضيوف ، فوجدنا قاعة فسيحة مكيفة ، وشعرنا على التو بالدفء والراحة ..
     وخلعت معطفى وغطاء الرأس والكوفية الصوف ، وخلعت " نادية " معطفها وقبعتها وقفازها ، وبدا شعرها الأسود مرسلا متموجا شديد اللمعان ، وتألقت عيناها بعد أن خلعت القبعة وزاد ما فيهما من صفاء ورقة ، وأسفرت عن فستان كحلى من الصوف جيد النسيج محكم التفصيل ، أضـفى سحرا جديدا على بشرة فى لون المرمر ونعومته ، وزاد الوجه نضارة وحسنا ..    
     وقدرت سنها بما لايزيد على الثلاثين سنة ، فقد بدت فى الجمال الآسر للمرأة عندما يكتمل عقلها وجسمها معا .. ويزداد بريق عينيها .. وتتفجر أنوثة وحيوية وهى تأخذ من الحياة قبل أن تولى عنها ..
     وقد أخذتنا السيدة الروسية المكلفة بغرفة الضيوف فى المحطة على اعتبار أننا صديقان أو زوجان .. رغم ما بيننا من فارق كبير فى السن ، فقد كنت أكبر من " نادية " بعشرين عاما على الأقل .. وقدمت لنا الشاى الساخن وما عندها من مجلات روسية باللغة الإنجليزية ..
     ولما أخرجت لها " نادية " علبة من الحلوى فاض وجه العجوز بالبشر وتناولت قطعة صغيرة من الشيكولاته وردت الباقى وهى تردد الشكر بالروسية التى لانعرفها ..
     ورأيت فى هذه السيدة من الحنان والأمومة مثل ما شاهدته تماما فى العجوز الأخرى التى كانت تشرح لنا باستفاضة ودقة كل طباع " تشيكوف" وأحواله عندما زرنا بيته فى هذا الصباح فى قلب موسكو ، حتى تصورت أنها هى التى ربته على صدرها ..وهو جيل عطوف صهرته الحياة وأظهرت فيه أجمل صفاته .. 
     كانت العجوز فى المحطة لاتفتأ تسألنا بالإشارة إن كنا فى حاجة إلى شىء آخر غير الشاى ، فشكرناها بحرارة ، وقلنا لها بالإشارة أيضا أننا أعددنا لليل الطويل فى القطار كل ما نحتاجه من طعام ..
     وكانت تنظر الينا فى تمعن وتطيل النظر وتحاول أن تقول شيئا لاتستطيع التعبير عنه بالإشارة ، شيئا كان يدور فى رأسها ويحتل مراكز تفكيرها ..
                             *** 
     وقبل موعد القطار بربع ساعة ، ودعنا السيدة العجوز وخرجنا إلى رصيف المحطة والثلج لايزال يتساقط وكل منا يحمل حقيبته فى يده ..
     ومررنا على صف طويل من العربات ، أنه قطار طويل ، بل أطول قطار رأيته فى حياتى .. قطار أزرق فاخر .. وعلى باب كل عربة وقفت الكمسارية بردائها الأزرق الجميل وكأنها قطعة من جماله ، وقفت ساكنة متهيئة للرحلة الطويلة .
     وكانت عربتنا هى الرابعة وراء القاطرة .. وحيتنا الكمسارية على البـاب ودخلنا فى طرقة العربة المفروشة بالسجاد إلى مقصورتنا .
     ووضعت حقيبة " نادية " وحقيبتى فى الداخل فى المكان المخصص للحقائب وخرجت من المقصورة أتطلع من النافذة وأعطى الفرصة " لنادية " لتخلع معطفها وقبعتها وكل ما كانت تتقى به البرد فى خارج القطار .
***
   وقفت أرقب الرصيف من النافذة وأنوار المصابيح الزاهية قد غشاها الثلج المتساقط فأصبحت شهباء تريح العين ، وبدا شىء أشبه بالستارة الزرقاء قد انسدل فوق كل ما يحيط بنا من أبنية وأشجار ، وكان المسافرون الذين يتحركون على الرصيف قلة من السائحين والروس وبعض الضباط بملابسهم الرسمية ..
     وبدا السكون واضحا ، ولم أسمع صفيرا للقطارات ولا زعيقا ولا ضجة ، ورأيت قطارات أخرى وكلها زرقاء واقفة حذاء الأرصفة تنتظر من يأذن لها بالمسير ..
     وأحسست " بنادية " تقف بجانبى منشرحة الصدر ، وقد غيرت فستانها وبدت كأنها تلبس رداء أعد للسفر الطويل ، وأخـذنا نتحدث ونتطلع إلى بعيد ، وكان رأسى يشتعل بالليلة " الحالمة " ..
     وظللنا نرقب الرصيف بعيون ثابتة بعد أن أزحنا الستارة كلها ، وكانت الحركة قليلة ومن يظهر من حين إلى حين من الركاب يمضى سريعا ويدخل فى جوف العربة الدافىء ومعظمهم أزواج ، رجل وامرأة فمن الذى يقضى اثنتى عشرة ساعة فى القطار وحده دون رفيق أو أنيس ..
     وشعرنا بأن القطار بدأ يتحرك ببطء وينسحب على الرصيف ، وظلت عيوننا معلقة بأنوار المدينة المتألقة وبالثلج المتساقط على الأعمدة وأسلاك البرق وفروع الأشجار . وشاهدنا من بعيد شيخا كبيرا يمشى بتؤدة فى طريق صاعد وهو يطلع وسط الثلوج ، ورغم الجهد والتعب البادين على ملامحه وجسمه ، فإنه رفض أن تعينه امرأة كانت بجانبه ..
     وقالت نادية وقد تأثرت من منظره :
     ـ إنه يتحرك بإرادته وحده ..
     فقلت معقبا :
     ـ ولعله حارب وانتصر بإرادته أيضا .. وأحسبه فقد ساقه فى الحرب .. ولكنه ظل صلدا ..
     وسلطت الكاميرا عليه ..
     فسألت نادية :
     ـ هل ستظهر الصورة ..؟
     ـ أرجو هذا ..
     وخـيل إلىّ ونحن فى الممشى أنه لا يوجد ركاب سوانا فى هـذه العربة . وكانت الكمسارية واقفة هناك على الجانب الأيمن من المدخل ، ثم تحركت وأخذت تنـزل ستائر النوافذ الخارجية كلها ، ودخلنا المقصورة وردت نادية الباب .. وحمدت الله على أن السريرين متجاوران ، فلا داعى لأن يصعد أحدنا على سلم وينام فوق سرير الآخر ..
     وسحبت " نادية " الطاولة التى بين السريرين وأخذت تخرج من حقيبة اليد بعض الأشياء وتضعها على الطاولة ..  
    وقالت وهى تدور بعينيها فى جوانب المقصورة :  
     ـ جميلة .. ؟ !
     ـ جدا .. اتفضلين هذا الجانب ، أم تحبين مكانى ..؟
     ـ شكرا أننى مستريحة هنا ..
وأخذت تجرى المشط على شعرها الأسود الناعم .. وترسله إلى الوراء وهى ترمقنى بعينيها الواسعتين بنفس النظرة الثابتة المفكرة التى كانت فى موسكو ..
     وأخرجت المجلات الإنجليزية والكتب لتتسلى بها فى القطار إن طابت لها القراءة ..
     ونهضت وفتحت الباب وأنا أقول " لنادية " :
     ـ سأطلب من الكمسارية قدحا من الشاى ، ألا ترغبين ..؟
     ـ أرغب .. ولكن الشاى يقدم عادة فى الصباح ..
     ـ ولكنى سأحاول ..
     وكانت " الكمسارية " جالسة فى مقصورتها بكامل زيها الرسمى ، فطلبت الشاى بالإنجليزية ، وسرنى أنها تعرف هذه اللغة .. فنهضت على الفور لتصنعه ..
     وحملت لنا قدحين كبيرين من الشاى ممزوجين بالسكر على عكس الشاى الذى يشرب فى قطارات الصين ، وحيت نادية وهشت وبشت فى وجهها . ودلتنى وهى تنسحب على عربة الطعام .. فشكرناها وكان معنا طعامنا .. تسوقناه من بقالة فى موسكو .. خبز وزبد ولحم بقر صنعت منه " نادية " شطائر شهية ، سنأكل منها كلما أحسسنا بالجوع ، دون أن نتقيد بمواعيد الطعام فى القطار ..
     وأخذنا نتحدث ، ونتطلع من النافذة فى جلستنا المريحة عن الليل فى روسيا فى القرى والحقول والمصانع والمدن الصغيرة والكبيرة .. وكان القطـار يمضى كالسهم ، ولكن لانحس بسرعته .
     وعجبت لإحساسى نحو " نادية " .. فبعد ساعة كاملة من الانفراد بها فى مقصورة ضيقة مغلقة الباب .. لم المس كتفها ولا خدها ولاشعرها .. ولم أشعر بالرغبة فى ذلك ولم أبادلها كلمة غزل واحدة .. أنا الذى كنت أتحرق شوقا إلى السائحات فى موسكو ، وأشتهى مضيفات الطائرات النازلات فى الفنادق وعاملات المصاعد ، وكل شابة التقى بها وأجد عندها الرغبة لمبادلتى النظر والحديث ..
     كنت أتحرق شوقا لأن أضم كل أنثى تستجيب لرغبتى .. ولما جاءت الأنثى وأصبحت على قيد ذراع منى والباب مغلق والسكون يخيم ، وكل شىء يهيىء النفس لإشعال العواطف .. لقيت نفسى باردا ميت الإحسـاس .. ميت العواطف .. لا أحس بأى إحساس مما يشعر به الرجل نحو المرأة عندما يخلو بها .. وتدفقت بدلها عواطف جديدة فى كيانى كله .. أحسست بهـا لأول مرة .. عواطف من الحنان الخالص والعطف الشديد ..      
     فلما قالت لى بأنها تشعر بصداع خفيف ، وضعت أمامها كل مـا معى من أقراص ومسكنات للصداع .. وكانت الحرارة فى المقصورة قد زادت فخرجت وتركتها لتخفف من ملابسها وتفعل كل ما تحب أن تغيره الأنثى من ملابسها وهى وحدها ولا تضايقها نظرات الرجل ..
     وعجبت أنا الرجل الأعزب الذى لم يتزوج قط ويعاشر المرأة ليصورها .. كمصور للصحف .. ويبيع صورتها دون اعتبار لصاحبة الصورة .. أنا بكل صفاتى أصبحت فجأة أحترم هذه السيدة وأجلها ، ولم أفكر قط فى أن آخذ لها صورة ..
     وكانت تقرأ خواطرى فى موسكو وتقول لى بعذوبة :
     ـ لماذا لاتأخذ لى صورة ..؟
وكنت أجيبها :
     ـ سأصورك صورة تذكارية عندما نفترق فى " ليننجراد " أما هنا فلا ..
ـ هل أنت بخيل ..؟
ـ جدا ..!
ـ إذا سأشترى لك الفيلم ..!
   أنها تخلق فى كل كلمة من كلمات الحوار جمالا بلاغيا كان يهز مشـاعرى ، وضحكت .. وكانت مسالك تفكيرى تطرد .. وكنت أخاف من شىء لا أعرفه ولذلك لم أحاول تصويرها قط . ولم أفكر فيه مع أن صورتها مغرية .. ومثيرة فى جريدتى .. شابة فنلندية مسلمة رائعة الحسن بكل الملامح الشرقية فى العينين والخدين والأنف والفم والجبين والشفة الرقيقة الحالمة ..أى كسب وأى إغراء بعد هذا .. ولكن كل حلقات تفكيرى كمصور كانت تقف عندها وتصدم بشىء أعزه فيها ولا أعرف مكنونه .
***
     كانت " نادية " قد زارت ليننجراد .. قبل مجيئها إلى موسكو وطشقند . لأن ليننجراد أقرب المدن الروسية إلى فنلندا ، ولذلك أخذت تحدثنى عن ليننجراد وما سنشاهده فيها من جمال وبهجة .
     وقالت برقة :
ـ وسنقضى يوما بطوله فى " الأرميتاج " ..
ـ يوما بطوله ..؟
   ـ واليوم لايكفى .. ألست مصورا ؟ سترى بعينيك أنه لايكفى .. إن فيه أجمل ما صنعه الرسامون فى العالم أجمع ..
    وتناولت لفافة الطعام وأخذنا نأكل على مهل ، وكان فى الكيس ثلاث تفاحات كبيرة .. فأكل كل منا واحدة ، واقترحت نادية أن تعطى الثالثة لكمسارية العربة ، وخرجت من المقصورة لتعطيها التفاحة .
    وعادت الكمسارية إلينا تشكر ومعها دفتر ، وطلبت أن نكتب لها كلمة تذكارية ، وكتبت نادية كلمة بالإنجليزية أعجبتنى جدا ، ووقعت تحتها باسمها ووقعت أنا باسمى " ابراهيم " بالحروف اللاتينية الكبيرة .
     وأرادت الكمسارية أن تعرف منطوق الاسمين فكررته لها نادية .. نادية .. ابراهيم .. والكمسارية تحاول نطق الاسمين وراءها بلكنة وأنا أضحك ..
***
     وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة بعد أن فرغنا من العشاء .. واقترحت أن نخرج إلى الطرقة ونتمشى قليلا حتى لا نصاب بالخمول ..
     فخرجنا وواصلنا السير إلى العربات الأخرى .. وكانت معظم أبواب المقصورات مغلقة ، وقليل من الركاب كان يقف مثلنا فى الممشى ..
     ولكن الوقفة بجوار النافذة والقطار يمضى ويطوى فى الليل كل شىء وراءه .. كان لها فعل السحر فى نفس " نادية " فقد تفتحت نفسها وتطلق وجهها وأخذت تدفع شفتها السفلى إلى جانب .. وتفتح عينيها السوداوين إلى ما وراء الحجب ..
     وشعرت أنه القطار الذى يطوى الزمن .. ولم أعد فى فترة الأحلام أشعر بشىء .. ثم تنبهت على يد " نادية " على كتفى ولم أتحرك من مكانى حتى لا أجرح شعورها .. إن السعادة حالة نفسية ، وقد أحسست بها فى هذه الساعة إلى أقصى مدى .. وأحسست بعد ذلك بأنها وضعت خدها على كتفى الأيسر بجانب الصدر .. قريبا من القلب .. ولم أتحرك .. وشعرت فى هذه اللحظة بأن نادية جزء من كيانى .. ولا انفصال لنا بعدها .. ولم أسألها إن كانت متزوجه أم لا .. لأنها لم تسألنى هذا السؤال ..
     واستفقت على صوتها :
     ـ نرجع ..
     وكنا قد تجاوزنا عربتنا بثلاث عربات على الأقل .. فعدنا على مهل ، وبعد أن دخلنا المقصورة بقليل واضطجعنا وأخذت تقرأ .. وأنا أقلب فى صفحات المجلات .
     سمعت نقرا خفيفا على الباب فقمت وفتحته ، فوجدت فتاة رشيقة فى الطرقة وناولتنى بطاقة عليها صورة قارئة كف مشهورة موجودة فى القطار !!
     وأخذت " نادية " تحاور الفتاة بالإنجليزية وكانت ضاحكة مرحة وفى لباس قصير جدا جعلها شبه عارية ، وقدرت أنها إنجليزية أو دنمركية ، فقد كانت شقراء الشعر وسيمة ..
     وسألتها عن العرافة :
   ـ أين هى ؟
ـ فى العربة السادسة والمقصورة السابعة ..
ـ وكم الأجر ؟
ـ عشرة دولارات ..
ـ هذا كثير ..
ـ إن الناس تسافر اليها .. وتصرف آلاف الدولارات لتراها .. ولكنها الآن موجودة وفى القطار ..!
وسألت نادية :
ـ هل ترغبين ؟
ـ لا .. أنا أعرف حظى ..!
   ثم رأينا أن نذهب لمجرد الفرجة .. وفتحت الفتاة باب المقصورة قليلا لنرى من بعيد .. فوجدنا عجوزا نحيلة تجلس مسترخية على السرير .. وشدنى وجهها بغضونه وتجاعيده .. وكانت فوق الثمانين .. وعيناها تلمعـان فى حدة وقوة أبصار غريبة كعينى العقاب
     وبدت فى جلستها قصيرة جدا ونحيفة ، ولكنها كانت تتحدث بالإنجليزية بطلاقة مذهلة ..
    وقلت لنادية :  
   ـ أدخلى ..
   فقالت :
   ـ لا .. ولكن لنقف ونتفرج ..
     ووقفنا مع الواقفين على الباب .. وكان أمر العرافة قد عرف فى القطار وأصبحت تسلية للمسافرين ، ولم يكن تسمح لغير الراغب فى الدخول .. ولم نسمع من كلامها حرفا لأنها تغلق الباب تماما ، وبدافع الفضول دخلت أنا "ونادية " وسألتها إن كنت أستطيع أن أدفع بعملة أخرى ..
     فقالت بالإنجليزية :
   ـ دولارات فقط ..!
   وتلفت نحو نادية لنخرج .. وأنا أقول :
   ـ بالعشرة دولارات نقضى يوما ممتعا فى ليننجراد ..
فهمست نادية :
   ـ إن منظر المرأة يسحرنى ..
    وأخرجت ورقة بعشرة دولارات وناولتها للعرافة ..
وسألتنى :
ـ من الذى سنقرأ كفه أنت أم هى ؟
ـ أنا ..
ـ اذن تخرج السيدة ..
ـ ليس بيننا أسرار ..
وأصرت على خروجها ..
وناولتها كفى ..
فقالت بصوت هادىء :
   ـ يدك معروقة .. وطويلة .. وخطوطها واضحة .. أسفار كثيرة .. ومن سن العشرين وأنت تسافر ، والحظ عاثر ، أرى لقاء فى سفينة بين عاشقين ، وأرى بحر مرمرة .. والبسفور ، وهاج البحر ، ودوت القنابل ، وأرى فتاة جميلة ثمـرة لهذا اللقــاء .. عاشت والتقت بوالدها بعد سنين وسنين ..
  وذهلت عند سماع قولها .. وأخذت أردد .. بحر .. مرمرة .. والبسفور ..وسفينة .. ولقاء .. وبحر مرمرة بالذات ولم تقل بحرا ككل البحور ..
     وسألت وأنا أرتعش :
     والأم ما زالت تعيش ؟
ـ أجل ..
ـ أين ..
ـ فى مدينة كبيرة .. وهى غنية وما زالت جميلة ..
     وظللت واقفا والعرق يتفصد على جبينى .. كاد وقع المفاجأة أن يصيبنى بدوار .. ثم تمالكت زمام نفسى وخرجت شاحب الوجه .
     سألتنى نادية :
ـ ما الذى قالته لك ..؟
ـ لا شىء .. مجرد أكاذيب كالمعتاد ..
     وفى المقصورة أخذت أحدق فى وجهها ورجعت أتذكر أمها .. نفس العينين وخط الأنف ونفس البسمة على الشفتين ونفس الطباع ..
     وعادت نادية تسأل :
ـ ما الذى قالته لك المرأة ؟
ـ ما الذى تقوله عرافة .. أكاذيب بالطبع ..!
ـ أريد أن أسمعها ..
   ـ قالت أنى متزوج .. وخط السعد واضح .. وتنتظرنى ثروة كبيرة .. وسأظل أسافر دوما .. ولو عرفت أننى مصرى لقالت أننا سنهزم إسرائيل فى هذا الشهر
ـ وإذا كنت لاتصدقها .. فلماذا تغير حالك بعد قولها ..؟
ـ هذا يحدث لكل إنسان ..
    وخيم بيننا الصمت ، ولم أكن أنام فى القطارات .. وتمددت لتنام هى .. بعد أن خففت الضوء وشمل الظلام المقصورة ..
ثم سمعت صوتها :
    ـ هل نمت ؟
ـ أحاول ذلك ..
ـ متى نصل ليننجراد ؟
ـ فى الساعة الثامنة صباحا ..
ـ وأين سننـزل ..؟
ـ فى فندق ليننجراد ..!
ـ حجزت ؟
ـ أجل ..
وخطر على بالى سؤال ، فقلت لها :
ـ نادية .. هل والدك موجود ..؟
ـ لا .. لقد توفى فى أثناء الحرب ..
ـ وأمك ..؟
   ـ تعيش معى فى فنلندا .. وهى لا تزال صبية وجميلة مع أنها تقترب من الخمسين ..
ـ وما أسمها ..؟
ـ صفية خير الله ..
     وارتعش قلبى ..
وسمعت " نادية " تقول بعد فترة صمت :
ـ إن صورتها معى فى الحقيبة ، هل تحب أن تراها الآن ؟
ـ فى الصباح يا نادية .. لاداعى للتعب فى الليل ..
     كنت أود أن أعيش فى ظل الشك .. ولو حتى إلى الصباح ، فالحقيقة السافرة مع كل ما تحمل من فرحة .. فيها وقع الفجاءة التى لم أكن أتوقع حدوثها قط ، فقد شطر كيانى نصفين .. إن القطار الأزرق حملنى عبر السنين إلى بعيد وأنا لا أدرى .. لاشىء ينسى .. وكل ما يحدث فى حياة الإنسان فهو لاصق بوجوده ..
     لقد كانت " نادية " أستاذة علم النفس وتقرأ أفكارى ، وتعرف هواجسى ، ومشاعرى ، وما أنا فيه من فرحة واضطراب .. ولكنها لزمت الصمت ..
     وبعد ساعة قمت وغطيت " نادية " بالبطانية .. ولم يكن جو المقصورة يحتاج إلى غطاء ..



============================================
نشرت القصة فى مجلة الثقافة عدد أكتوبر 1973 وأعيد نشرها فى كتاب  " صورة فى الجدار " سنة 1980 " وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993     
=================================    





السن الذهبية

عادة " سعيد " أن يقطع عليك الطريق وأنت تمشى كالحالم فى شوارع العاصمة ويقول بصوت هادئ ولهجة مؤدبة تجعلك تستفيق من شرودك ..
-          صباح الخير يا بيه ..
-          صباح الخير ..
-          يعنى سعادتك .. مبتجيش النادى من زمان ..؟
فترفع له رأسك لأنه أطول منك بمجرد سماعك لكلمتى سعادتك .. والنادى .. وتحدق فى وجهه .. وفى قلبك السرور .. وفى عينيك البهجة .. فقد نقلك فى غمضة عين .. من طبقة الناس العاديين الأنفار الذين لا وزن لهم فى الحياة .. إلى طبقة مجتمع النوادى حيث الارستقراطية والرفاهية من غير حدود ..
على أثر قوله تلتفت إليه منتشيا .. وتطالعك منه فى هذه اللحظة ابتسامة عريضة وتبرز سن ذهبية فى الفك الأعلى .. تلتمع وحدها فى كهف الفم المعتم كحبة الزمرد .. وتفيض على أثرها ملامح الوجه جميعا بالبشاشة المنطلقة من كل أسار الحياة .. فاذا اقترنت بالوجه الأسود اللامع لمعان الأبنوس .. والذى توحى كل ملامحه بأقصى درجات الطيبة .. استراحت إليه نفسك .. وأقبلت عليه بوجهك بعد أن سرتك كلماته ..
وينتهز هذه السانحة ويقول على الفور :
-          حتشرف سعادتك النادى العصر ..؟
-          إن شاء الله ..
-          حقول لعبد الحميد بك .. إن سعادتك حتشرف ..!
ويظل واقفا فى مكانه وقد ارتسمت على وجهه الطويل علامة استرحام خرساء .. فتضع يدك فى جيبك على التو .. وتعطيه عشرة قروش أو أكثر .. فيتناولها شاكرا داعيا لك بالصحة والهناء ..  
وينطلق بجلبابه النظيف الناصع البياض مبتعدا عن الشمس وفى حركة السيارات حتى يغيب عن بصرك ..
وبعد رحيله مباشرة ترجع رويدا إلى نفسك .. وتستفيق من هذه الغفلة .. فلست من رواد النوادى .. ولم تشترك قط فى أى ناد من نوادى القاهرة .. وتدرك أن الشاب الأسمر قد خدعك بطريقة نفسية بارعة .. وضع أصبعه على عقدة الفقر التى فى أعماقك ولمسها بحنان ..
ومع ذلك فما تشعر بالأسف على خداعه وقد تضحك لبراعته .. ويكون هو فى لحظة تفكيرك هذه قد بارح مربع الاسعاف سريعا ومضى بكل طوله وقوة عضلاته فى شارع 26 يوليو .. ليقف وقفات هناك ثم مثلها فى " التوفيقية " .. وشارع طلعت حرب .. وميدان " الأوبرا " ..
وفى الليل وفى وهج المصابيح المتألقة فى قلب العاصمة .. يتخذ له مقرا فى حانة " ديانا " بشارع " عبد الخالق ثروت " من الناحية الغربية يشرب الخمر ويتحدث مع رواد الحانة .. وغالبيتهم من سماسرة الشقق المفروشة .. وكثيرا ما كان يسبهم ويلعنهم لأنهم نصابون .. ولكنه لا يتعدى التنابذ بالألفاظ لأنه مرح وفى طبعه وداعة ..
وبعد أن يأخذ كفايته من الراحة وينعش نفسه .. يتحرك إلى مفترق الطريق بين شارع طلعت حرب وشارع 26 يوليو ويقف على الرصيف الأيمن .. يستقبل القادمين من القطارات والمطارات ويصحبهم إلى الفنادق .. وغالبا ما يصيب خيرا ..
***
وذات ليلة هبطت عليه سيدة شابة تلبس السواد من سيارة آجرة .. وفتح لها الباب .. وخرجت مسرعة إلى باب العمارة القائمة فى بداية الشارع ..
وفى كل ليلة كانت تأتى فى نفس الساعة ويفتح لها باب السيارة .. ويتلقى ابتسامتها الرقيقة من وجه زاده الفستان الأسود تألقا وسحرا .. وكان إذا وجدها تحمل فى يدها شيئا ولو صغيرا حمله عنها حتى باب المصعد .. ومع كل الهابطين من السيارات الخاصة وسيارات الأجرة .. كان يقف مؤدبا بعد كل خدمة ينتظر البقشيش ولكن مع هذه السيدة لم يكن يطلب أى شيء على الإطلاق ..
وكان يكفيه ابتسامتها الحلوة .. والبريق الذى يشع من عينيها العسليتين .. يهزه كأنها ماس كهربائى .. وينفذ الى سويداء قلبه .. فهو زاده فى الحياة ومصباحه ..
لم يكن يراها تبتسم هذه الابتسامة الناعمة .. التى تختلج لها شفتاها قليلا وتتكسر وجنتاها .. إلا عندما ترى وجهه الأبنوسى وحركة يده فى أكرة باب السيارة ..
وسأل نفسه لماذا تلبس السواد .. أنها شابة لم تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها .. وخمن أنها أرملة .. أو حزينة على عزيز لديها مات فى الحرب أو فى غيرها .. تأثر لحزنها .. وزادها من لدنه حنانا ورعاية كرجل ..
وكانت رقيقة جدا ولطيفة معه .. حتى أصبح وجوده فى المكان متعلقا بحضورها ..
وكلما قدمت له شيئا نظير خدماته .. رده بلطف .. لم يكن يقبل أن يأخذ منها مليما واحدا ..
وكان شعوره نحوها يزداد فى كل يوم قربا .. حتى شغل بها تماما وأصبحت معبودته ..
وكان دائما يراها وحدها فى السيارة فى الشارع .. وفى المقصف عندما تتناول وجبة خفيفة من " الأمريكين " فى نفس الشارع .. وحتى فى الأسانسير .. لم تكن تركب مع أحد .. كانت تظل واقفة فى مدخل العمارة حتى يخلو لها المصعد وحدها ..
وكان وهو واقف بجانبها يحمل لها ما تسوقته .. يشعر بالسرور لهذه الحركة .. أنها حركة طبيعية من امرأة وحيدة تحرص على سمعتها فى هذا الحى الصاخب ..
***
ولكن حدث ما خسف وجه القمر .. فقد شاهدها عرضا خارجة من سينما قصر النيل بعد منتصف الليل بصحبة رجل .. ولم يصدق عينيه .. وأصابته من المفاجأة لوثة ظلت تنهش عقله وقلبه طوال الليل ..
***
وفى الصباح التالى كان كالمضروب على يافوخه .. فتعطل عن كل حركة وأصابه الشلل تماما .. ولم يقف على النواصى كعادته يراوغ العابرين ويتحدث عن النوادى ..
لقد أنطفأ بريقه وخمد ذكاؤه .. وانكمش يشرب الشاى الأسود فى مقهى النجوم ويدخن بشراهة .. وكان حوله وأمامه على الرصيف ملتصقين بالسور الحديدى .. بعض المتسكعين والعاطلين والقوادين .. يترقبون الوافدين من الخارج كعادتهم .. ليقدموا لهم الخدمات ..
ولأول مرة فى حياته يشعر نحوهم بالكراهية الشديدة .. ويود لو تخسف بهم الأرض .. ولكى يخفف من غلواء نقمته عليهم وغضبه .. ترك المكان وخرج يسير فى الشوارع كالضال .. ولمح من بعيد فى ظل العتمة شيئا يتحرك جعل قلبه يتجمد أولا .. ثم أخذ يخفق بعنف .. فقد شاهدها هى بلحمها ودمها تدخل فندقا يعرفه بسوء السمعة مع نفس الشاب ..
***
ودارت به الأرض .. وظل واقفا فى مكانه ينتظر نزولها .. ليخنق الشاب .. وطال انتظاره .. ولم يخرجا .. وظل يروح ويجئ أمام الفندق وعيناه تحدقان فى النوافذ المظلمة والمضيئة كالمسلوب العقل ..
***
وعلى الرصيف المقابل شاهد فى العتمة منظرا جعل غضبه ينفجر .. شاهد شخصا يغرى فتاة لم تبلغ العشرين على الركوب مع شاب فى سيارة .. والفتاة تبدو خائفة ومترددة لفترة ما .. ثم ركبت ..
وفى وثبة واحدة .. أصبح " سعيد " على رفرف السيارة قبل أن تتحرك .. وأخرج الفتاة بعنف وصفعها فطارت .. وأمسك بعنق القواد وضغط حتى خرج لسانه ..
ودارت معركة صاخبة اشتركت فيها كل الجموع المتسكعة فى الليل على الرصيف ..
وخرج منها الشاب الأسمر وقد فقد سنته الذهبية .. ولكن أحس بالرضا عن نفسه .. أحس بأنه فعل شيئا ذا قيمة .. فلم يجرؤ واحد من الساقطين والمتسكعين بعدها على الاقتراب من الحى ..




======================== 
نشرت القصة فى مجلة الهلال بالعدد 2 فى فبراير 1971 وأعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980 وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
======================





















الورقة المطوية
        
            
      وقفت فى الصف مع الرجال .. أمام شباك التذاكر .. وكان الزحام شديدا فى نهاية الصيف والطابور يتلوى لطوله ويبرز خارج المحطة ..
     وكان آخر قطار " ديزل " يتجه إلى القاهرة .. ومع أن معظم الواقفين فى الطابور لم يكن عندهم أدنى أمل فى الحصــول على مقعد ولكنهم وقفوا .. وصبروا ليجربوا حظهم .
     وكان عامل التذاكر فى محطة " سيدى جابر " بليدا ولئيما  وحلا له تعذيب الواقفين أمامه فى الطابور .. إذ كان يعمل فى بطء شديد ، ويحادث موظفا فى الداخل بين الحين والحين ويدير رأسه إلى الوراء دون سبب ظاهر ثم يعود فى تكاسل إلى عمله ..
     وكان كل الذين يرون هذا المشهد المغيظ ، لايبدو منهم التذمر أو الاعتراض .. فقد الفوا مثل هذه الأشياء .. واعتادوا عليها .. وكانوا على يقين .. بعد التجربة المرة .. إن الشكوى والتذمر لاجدوى من ورائهما .. ولايغيران الحال .. فلاذوا بالصمت .
     وصمتت السيدة مثلهم ولكنها كانت تشعر بالغيظ .. وصبرت حتى جاء دورها وأصبحت أمام الموظف على الشباك .. وفتحت حقيبتها لتخرج ثمن التذكرة .. وارتعشت يدها وتمتمت ثم أخضلت عيناها بالدمع ..
  وظهر عليها الاضطراب بوضوح .. وأخذت تتلفت زائغة البصـر .. ثم خرجت من الصف وهى لاتستطيع حبس عبراتها ..
    وأدرك الرجل الذى كان وراءها فى الصف حالها وما جرى لها .. وكان قد سمعها وهى تقول :
     ـ تذكرة لمصر ..
     ثم انشل لسانها ..
     فأخرج ورقة بخمسة جنيهات من جيبه وقطع تذكرتين بدلا من تذكرة واحدة .. وتناول الباقى من الموظف ثم خرج من الصف ..
     وظل يبحث عن السيدة حتى وجدها خارج المحطة .. فتقدم اليها وقال بلطف وهو يمد يده بالتذكرة ..
     ـ أدركت ما حدث .. فاسمحى لى بأن أقدم هذه التذكرة .. وعندما تعودين إلى بيتك .. ردى ثمنها فى أى وقت ..
     فنظرت إلى الرجل مشدوهة .. لم تكن تقدر .. أو تنتظر مثل هذا من إنسان .. وتصورت أن الرجل يحتال عليها .. أو يفعل شيئا ليتقاضى ثمنه مضاعفا .. وظلت مترددة واجمة ولكن لما توضحته ونظرت إلى عينيه توسمت فيهما الطيبة المطلقة ..
     فتناولت منه التذكرة .. وهمست ..
     ـ متشكرة ..
     وبعد أن دخلت من باب المحطة .. تذكرت أنها لم تسأل الرجل عن عنوانه لترد له نقوده ..
     فمشت إليه فى استحياء .
     ـ ولكن .. حضرتك .. لم تعطنى عنوانك ..
     ـ فى القطار .. اننا جنب بعض ..
     جنب بعض .. وعاودتها الهواجس انه يستغل الموقف إذن .. واضطربت وعلا وجهها السهوم .. لقد كانت تتصور فيه الطيبة فإذا به كغيره من الرجال استغل موقفها ببراعة .. ترد له التذكرة ؟ ولكن أين تذهب فى هذه المدينة الكبيرة وهى وحيدة مفلسة ؟ فبعد أن نشلت ليس فى جيبها أى نقود على الاطلاق .. وليس لها قريب أو غريب فى الإسكندرية تعتمد عليه ..
     وظلت حائرة مضطربة .. ثم شعرت بالقطار يدخل المحطة فأنقذهـا من حيرتها وركبت وهى تترك الأمر للمقادير ..
                               *** 
     وبحثت عن الرجل وراءها وقدامها وهى تدخل فى جوف العربة فلم تجده .. وكان الزحام شديدا .. خلق كثير .. يتدافع بالمناكب .. فى داخل العربة .. وتحركت ببطء وهى تقدر العثور عليه بعد أن تجلس على المقعد .. فهو بجوارها كما قال لها ..
     ولكنها وجدت رقم كرسيها بجوار سيدة فجلست متعجبة .. ولما تحرك القطار تطلعت فأبصرت بالرجل هناك فى أقصى العربة .. يجلس بجوار الباب ..
     وظلت عيناها معلقتين به .. وهى تنتظر منه أن يتحرك من مكانه ويأتى إليها وعلى الأخص وهو يعرف رقم مقعدها .. ولكنه لم ينهض حتى بعد أن جاوز القطار محطة " دمنهور " ..
     وفى محطة " طنطا " حمل اليها لفة طعام ونظرت إليه .. وابتسمت .. وتناولت اللفة صامتة .. فقد خشيت إن رفضتها أن تثير فضول الركاب .. وخصوصا السيدة التى بجوارها فهى فضولية إلى أقصى مدى ..
     ولذلك تناولت منه الطعام وهى تشعر من حولها بأنها قريبة له أو حتى زوجته .. فهو فى سن زوجها .. وأخذت تأكل .. ضامة شفتيها ما أمكن .. وعزمت على جارتها أكثر من مرة ..
     وبعد أن فرغت من الطعام وأحست بأنها تقترب من محطة القاهرة .. فكرت فى الذى تفعله لتصل إلى بيتها فى الدقى فى هذا الليل ومعها حقيبة ثقيلة ..
     وخرجت من القطار .. تحمل حقيبتها بيدها .. وفى الصالة الخارجية لمحطة القاهرة كان الرجل بجانبها يعينها .. ودفع إلى يدها ورقة بخمسين قرشا ..
     وقال ..
     ـ هذا للتاكسى ..
     فقالت له بثبات هذه المرة ..
     ـ أبدا .. لابد من اسمك وعنوانك أولا ..
     فابتسم فى لطف .. وأخرج من جيبه ورقة وقلما .. وانتحى جانبا ليكتب ثم طوى الورقة .. وقال لها ..
     ـ فى هذه الورقة اسمى وعنوانى ورقم تليفونى أيضا ..
     وأركبها تاكسى .. واختار لها سائقه ..
     ولما دخلت البيت .. كان زوجها لايزال فى الخارج .. وكانت الشغالة فى انتظارها وسرت لقدومها ..
     ولما أخرجت " ثريا " ملابسها من حقيبتها واستراحت قليلا أخرجت من حقيبة يدها الورقة التى أعطاها لها الرجل " وكانت عدة طيات ففردتها ونظرت فيها .. فوجدتها بيضاء .. ليس فيها حرف واحد ".
     وابتسمت وصورة الرجل الغريب تتضخم أمامها وتعظم حتى ملأت جوانب البيت كله ..
     ولما جاء زوجها من الخارج وجدها فى الفراش .. فاقترب منها فى شوق ليحتضنها ولكنها دفعته عنها نافرة واعتذرت بأنها تعبة ..
     ولأول مرة فى حياتها تشعر بكراهية شديدة له واحتقار من غير حدود .. كانت تقارن بين صفاته الخلقية وصفات الرجل الآخر ..
     فقد لمست لأول مرة فى حياتها النبل والشجاعة فى إنسان ..





================================= 
نشرت القصة فى مجلة الهلال عدد يونية 1973 وأعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980 وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
=================================





الكمنجة

 المطر يتساقط بغزارة خارج المطار ، والشمس تطلع وتغيب .. ولكن المطر لا ينقطع ، والبرودة فى الخارج على أشدها ..
      وكان " اسماعيل " قد وصل المطار مع شروق الشمس .. جاء فى عربة أجرة حملته من الفندق .. وشاهد من نافذة السيارة بعض أنحاء المدينة ([1]) الجميلة التى كان قد دخلها بالأمس فى عتمة الليل ، وراقته بمنازلها البيضاء ، وشوارعها النظيفة ، وأشجارها الوارفة ، ومروجها الخضراء .. اعجب بكل ما فيها من جمال رغم ضباب الصباح ، وبرودة الجو ..
      وعندما نزل من السيارة ، ودخل المطار شعر بالدفء ، ووضع حقيبته فى غرفة الأمانات ، وأبقى الكمنجة فى يده وانطلق خفيفا من كل القيود فى البناية الكبيرة ، فأمامه ساعتان على موعد سفره ويستطيع فى خلالها أن يفطر .. ويقرأ الصحف ، ويتنزه فى الخارج متى كف المطر ..
      وكانت مناظر الطبيعة حول المطار أخاذة وتريح الأعصاب وتفتح آفاق النفس للتأمل ، فالتلال المحيطة يكسوها العشب الأخضر الذى استنام للمطر وأصبح كبساط الحرير ، والرياح العاتية تحرك فروع الصنوبر ، وأشجار الحور واللبلاب وتجعلها تتمايل وتغنى فى ايقاع جميل ..
      وعلى مدى البصر منازل بيضاء صغيرة تناثرت على التلال الزمردية وبين المروج والورود من غير زحام ولا اختناق ، فحركت مشاعره واشتاق جدا ان يضمه بيت منها .. فقد عاش شبابه فى قلب الزحام الخانق ..
      شاهد المنظر فى جملته من وراء الزجاج وهو يصعد السلالم إلى المقصف ليأكل فتمهل مأخوذا من روعة المشهد ونسى الجوع ..
      وعندما وقف أمام العاملة وطلب حاجته متحدثا بالفرنسية وجدها تتحدث بالعربية وسمع كلمة " صح " فانشرح قلبه ، وأكل فطيرة وشرب القهوة ، ثم رجع الى الصالة وابتاع صحيفة يومية وجلس يقرؤها ويدخن ..
      وكانت الحركة فى بكرة الصباح خفيفة .. ثم أخذ المسافرون يملأون الساحة ..
      وكانت لوحة المطار المضاءة ترتعش كلما حانت ساعة السفر ، فيتحرك رهط من المسافرين يتدفقون الى الصالة الداخلية وبأيديهم جوازات السفر .. وحقائب اليد ..
      ولمح من بعيد ثلاث مضيفات ينسبن انسيابا الى داخل المطار وهن يرتدين العباءات الصوفية ولم تكن بينهن " ثريا " ..
      فجلس ينتظرها وقلبه يخفق ، ثم رآها بعد ربع الساعة تتهادى وحدها فى الصالة بزيها الأزرق الجميل .. واستقبلته فرحة وسألته :
-     أعجبتك الغرفة ..؟
-     جميلة للغاية .. ولولا فضلك لنمت فى الشارع ..
- الفنادق هنا مزدحمة طوال السنة .. وندر من يعثر على غرفة وعلى الأخص فى الشتاء ..
-     وأنت أين نمت ..؟
- مع زميلة لى فى الشركة .. حدثتها عنك وعن الضيق الذى صادفك فى الليل .. فضمتنى إلى سريرها ..
ـ أنت كريمة .. فكيف تتعبين ..!
   ـ شكرا .. أتريد السفر اليوم حقا ..؟ الغرفة تحت أمرك إن طابت لك الإقامة هنا أياما أخر ..
     ـ لقد طوقتنتى بفضل لا ينسى فى مهمة محددة بالساعة فلابد من السفر ..
ـ اذن سأحجز لك ..؟
ـ أجل ..
ـ وإلى روما أولا ..؟
ـ أجل .. إلى روما أولا كما اتفقنا ..
ـ حاضر ..
    وأعطاها جواز السفر والنقود .. ودخلت المكتب .. وعادت بالتذكرة .. فنظر فيها .. وسأل :
ـ الساعة الواحدة ..! كنت أحسبها التاسعة ..
فقالت بدلال :
ـ هذه طيارتى .. فهل تريد الأخرى ..؟
ـ أبدا .. كم أنا غبى ..!
وضحكا ..
    ونظر إلى عينيها الخضراوين وهى تضحك وقد تلونا بلون البنفسج واشتد بريقهما وفاض وجهها كله بالسحر ..
    وعجب لنفسه كيف تطور الحال بينهما بسرعة إلى هذه المودة ..
    وقال لها بلطف :
    ـ لقد نزلت فى هذه المدينة لأراك ..
    ـ أعرف هذا ..
   ـ فى السنة الماضية تركتينى فى المطار حائرا لا أعرف طريقى .. أما فى هذه السنة فقد تنازلتى لى عن غرفتك فى الفندق .. فما أعجب طباع النساء ..!
   ـ فى السنة الماضية كان معك فى نفس الطائرة فوج من الحجاج .. وقد شغلت بهم عنك ، لأنهم لا يعرفون الفرنسية ، فدونت لهم بطاقات الجوازات كلها .. والا لناموا جياعا فى العراء ..
  ـ أعرف قلبك الرحيم ..
  ـ وهل غفرت لى بعد أن عرفت السبب ..؟!
  ـ بالطبع ..
  ـ والآن أنا راجعة الى المدينة لبعض الشئون .. وسأعود فى الحادية عشرة ..
  ـ ولماذا جئت مبكرة اذن ..؟ طائرتك فى الساعة الواحدة بعد الظهر ..
   ـ جئت لأحجز لك تذكرة .. فأنا أعرف الزحام فى هذه الأيام ..
   ـ شكرا من القلب ..
وسلمت ومضت فى رشاقة إلى خارج المطار ..
وأقلعت الطائرة فى جو جميل .. وجلس " إسماعيل " فى مكانه بعد أن وضع الكمنجة بعلبتها أمامه ، ولما ارتفعت الطائرة حل الحزام ، وأخذ يدخن ، وهو شاعر بالفرحة لأنه سيقضى مع " ثريا " كل هذه الساعات الطويلة فى الجو ، وهى بقربه بكل مشاعرها الفياضة وكل عواطفها العربية ، وستقوم على خدمته بحكم عملها وتقدم له الطعام والشراب ..
    وحملت له عصير البرتقال ، ثم طعام الغذاء ، فشعر من صفاء نفسه بأنه يأكل ألذ طعام ذاقه فى حياته ، ولما رفعت الصحاف ، تناول صحيفة فرنسية وجدها أمامه ، ثم استلقى وأخذ يدخن مطلقا العنان لأفكار الشباب وأحلامه ، وكانت عيون الركاب على اللوحة المضاءة التى تسمح بالتدخين ثم تمنعه ، وقد شغل معظمهم نفسه بالمطالعة أو التحدث الى جاره ..
     وكانت " ثريا " تروح وتجئ فى حركتها الرتيبة التى تقوم بها فى ممشى الطائرة مئات المرات دون أى انفعال غالب ..
     ولكن فى هذه المرة شعرت بالاضطراب الشديد الذى خلخل ركبتيها وهى تسير فقد خشيت أن يحدث حادث للطائرة وفيها " إسماعيل " .. لأول مرة تشعر بالخوف من حوادث الطائرات .. لقد انتابها مثل هذا الاحساس منذ سنوات عندما طارت فى أول عهدها كمضيفة خافت وأرتعش بدنها ولكنها لم تكن تشعر وقتذاك بمثل هذا الاحساس الرهيب المدمر الذى تحس به الآن ..
     ارتعشت وشعرت بالخوف يكاد يشل حركتها وعملها .. فراحت وجاءت فى ممشى الطائرة لتقاومه وداعبت الأطفال .. وتحدثت مع النساء ..
     ثم استقرت واقفة خلف مقعده وكأنها تطوقه وتحميه من كل سوء ..
     وأخذت تسائل نفسها .. هل يعرف شعورها ..؟ هل يحس بضربات قلبها ..؟ لقد التقت بمثله من الشبان العرب فى الطائرة وفى الأرض .. ولكن ما من واحد منهم امتلك نفسها ووجدانها كما فعل هو ..
     فى السنة الماضية عندما هبط من الطائرة فى نفس المدينة وكانت وقتها تعمل مضيفة على الأرض .. مر سريعا كالطيف .. ولما فرغت من أمر الحجاج وتلفتت لم تجده .. وأحست بغضة فى القلب ، ولكنها كانت على يقين أنها ستلتقى به مرة أخرى ، وحدث هذا بالفعل ، وها هما الآن فى مكان واحد بين السماء والأرض ويطوقهما حزام واحد ، ولما نهض ليذهب الى دورة المياه ، قالت له مداعبة :
     ـ لا تتحرك كثيرا .. وإلا نحسبك فدائيا ونقبض عليك ..!
وضحك .. وكانت الكمنجة بعلبتها لا تزال فى يده ، فقالت ضاحكة :
     ـ هل ستعزف بها لحنا هناك ..؟
     وضحك وناولها الكمنجة ..  ولاحظ وهو راجع إلى كرسيه .. وجود شخص فى الصف الثالث من مؤخرة الطائرة ، تذكر أنه رآه من قبل .. فى لندن .. وفى باريس .. وفى طنجة فهل هذا الرجل يطارده أم هو سفر طبيعى للرجل ..؟
     وشعر بالضيق لأنه فى مهمة وطنية ولا يريد ما يعوقها .. وهو حاذر يقظ فى تحركاته منذ عمله الأخير فى برلين .. فكيف يحدث هذا ..؟ وهل يتبعونه من هذه اللحظة وهو لا يدرى ..؟
     وظلت الخواطر تطارده فى عنف .. ولكنه تمالك أعصابه ، وتحرك من مقعده مرة أخرى ، واتجه فى الممشى إلى الأمام ليواجه الرجل وهو راجع ويقرأ تعابير وجهه ..
     وعاد وهو يتعمد التحديق فى طلعة الرجل .. ولعله بدافع باطنى كان يتحداه ..
     ورجع " إسماعيل " إلى كرسيه وهو يفكر فى الخطر الذى يحدثه الرجل للطائرة بسببه وفيها الكثير من النساء والأطفال ..
     وشعر بالعرق يتفصد على جبينه .. ودار بخلده أن الرجل يستطيع أن يفعلها بسهولة لأنه يجلس خلفه ..
     أما هو الجالس فى الأمام .. فلابد أن يقف ويستدير .. وفى أثناء هذه الحركة يستطيع الرجل أن يرديه فى ثوان قبل أن يطلق هو طلقة واحدة ..
     وبحث بعينيه .. وهو ملتهب المشاعر .. عن مقعد خال فى الخلف لينتقل اليه .. ولكنه وجد أن الحركة ستكون ملفتة للنظر ومنبهة للرجل نفسه .. ومع كل لم تكن هناك مقاعد خالية فى الصفوف الخلفية على الاطلاق ..
     وجلس محاذرا مهيئا نفسه لكل المفاجأت .. ويده على الكمنجة .. وهو يسأل نفسه .. كيف تسلل هذا الرجل .. إلى بلد عربى أيضا وظل يطارده من " طنجة " حتى ركب معه هذه الطائرة وهو فى غفلة عنه ..
     ولعن اسرائيل وأيامها وجرائمها وحروبها .. لقد تحول الجو الآمن فى الطائرة إلى رحلات قلق وعذاب بسبب وجودها ..
     ولماذا لا يفعلها هو فى ثوان ويتخلص من الرجل ..؟ ولكنه قد يصيب بريئا ، وقد يسبب كارثة للطائرة بمن فيها .. ومن يدريه أن الرجل وحده ..؟
     ومن يدريه ان الرجل نفسه يطارده ..؟ ربما كان الأمر كله مجرد شبهة لا تستند على دليل ..
     ظلت هذه الخواطر تدور وتعصف برأسه وحده ، ولم تكن صديقته " ثريا " تعرف بحاله وهى رائحة وغادية فى الطائرة فى نشاط ومرح وإن لاحظت شروده ، وحملت له الشراب الساخن والبارد أكثر من مرة .. والابتسامة فى شفتيها وعينيها ..
***
      وتواعدا على اللقاء فى مكان عينه لها فى " روما " .. بعد ساعة واحدة من هبوط الطائرة .. لأنه سيغادر روما فى الصباح ، ولأنها مثله ستقضى فيها هذه الليلة فقط وتعود بطائرتها فى الصباح المبكر أيضا ..
      وفى مطار روما .. كان " إسماعيل " آخر من هبط من سلم الطائرة ، و" ثريا " واقفة على الباب تهنئه بسلامة الوصول ..!
      ولم يركب عربة شركة الطيران ، ليبتعد عن الرجل ، ويتيه فى قلب المدينة الضخمة ..
***
وجاءت " ثريا " إلى المقصف الذى اختاره إسماعيل وكانت ترتدى معطفا بنيا وحذاء من لونه .. ومشت رشيقة كالعروس .. وحقيبتها فى يدها .. الى ركن هادئ فى المقصف ..
     والشتاء فى الخارج شديد البرودة ظاهر السحاب .. وتعشيا .. وجلسا يتحدثان كعاشقين حالمين .. ويده تلامس يدها .. وأنفاسه تمتزج مع أنفاسها .. حتى نسيا نفسيهما .. ومضى جزء كبير من الليل ، وأبدى رغبته فى أن يطوف فى جولة بالسيارة فى أنحاء المدينة وهى تتلالآ فى الليل ، فوافقت منشرحة وخرجا إلى الطريق ، والساعة تقترب من منتصف الليل ، والرياح باردة .. وسمع إسماعيل وقع خطوات وراءه .. ولما تلفت .. رأى نفس الرجل الذى كان قد شاهده فى الطائرة ، فضغط على أعصابه وفكر سريعا فى هدوء حتى لا يسبب الضرر لثريا ..
ومرت بجانبهما سيارة أجرة فأوقفها وركبا ، وقال لها أنه مضطر أن يعدل عن الجولة وأن يذهب بها إلى فندقها فى الحال ، ولما سألته عن السبب حدثها عن الرجل الذى يطارده والأخطار التى تتعرض لها بسبب وجودها معه ..
     فقالت له :
     ـ مستحيل أن أتركك وحدك فى هذا الليل ..
     ـ إننا ندفع ثمن أخطاء الآخرين ، فما ذنبك أنت ..؟
     ـ مستحيل أن أتركك وحدك ..
     وأصرت على مرافقته إلى حيث يذهب وأن تظل بجانبه مهما كانت المخاطر ، وفى الصباح سيسافران معا ..
     وخضع أخيرًا لرأيها ودارت بهما السيارة دورات ثم حملتهما إلى حيث ينزل ..
     وخلعت معطفها فى غرفته بالنزل ، وجلست على الأريكة وهى تشعر بالدفء والأمان ..
     وجلس بجانبها يحادثها وهو شاعر بأن كل ما فى الدنيا من سعادة قد تجمع فى هذه اللحظة وحدثته عن أسرتها العربية ، وكيف عاشت ثمانى سنوات فى فرنسا وهى طفلة مع الأسرة ، فلما رجعت إلى بلدها العربى .. كانت لا تعرف غير الفرنسية ، ثم تعلمت العربية كأنها أجنبية ولما تخرجت من الجامعة وجدت أن أنسب عمل لها هو المضيفة لأنها تحب السفر ومشاهدة العالم كله .. وقد شاهدت حتى الآن نصفه ، فقال مبتسما :
     ـ وسنشاهد النصف الثانى معا ..
 ـ حقا ..؟
 ـ حقا ..!
     وفهمت قصده وظهرت الفرحة فى عينيها وخديها وسمات وجهها الصغير ، كان وجهها الصغير يعبر عن الطفولة والبراءة ، وقوامها الممشوق ، ونضارة بشرتها وسرعة حركتها فى المشى على الأرض فى قلب الطائرة .. تدل على أنها هاوية تنس قبل أن تكون مضيفة ..
     وكانت كلما تكلمت بالفرنسية لأنها أسهل على لسانها يستوقفها ضاحكا :
     ـ بالعربى .. لأنك عربية ..
     ـ حاضر ..
وتضحك جذلانة طروب ..
    وحدثها عن نفسه .. وكيف لعن اليهود فى كل بلد حل فيه ونشر مخازيهم فى المحافل والأندية ، وهو مطارد من عيونهم فى كل مكان ولكنه لن ينثنى عن رسالته ..
    وظلا فى حديث ممتع خافت أشبه بالمناجاة .. والسكون شامل والليل يولى .. وشعر بأنها فى حاجة إلى الراحة فقال لها :
     ـ تفضلى لتستريحى فى الفراش .. وسأتمدد أنا على هذه الكنبة ..
ـ كيف آخذ فراشك ..؟ أبدا ..
      ـ اجعلينى مرة واحدة فى حياتك أحس بهذه السعادة ولا تحرمينى منها .. أرجوك ..
      وتناولت يده لتعبر عن شكرها على عواطفه النبيلة وكانت عيناها تفيضان بالحب والحنان ..
     وانحنى فقبل يدها ، فطوقته .. وتلاقت شفاههما فى قبلة طويلة ..
     وفى هذه اللحظة الجميلة الحالمة التى يحس فيها العشاق بأن العالم كله قد خلا من كل البشر وخلق لهم وحدهم استفاقا معا على خطوات ثقيلة تقترب من باب الغرفة .. ورنين ، راحت الأقدام الثقيلة وجاءت فى حركة دائمة مفزعة ، فى دائرة الباب ..
     وظل إسماعيل شاخصا ببصره وقد أدرك أن هذه الدقات مقصود بها الذعر ..
     لقد جاء الرجل وراءه ليقول له أنه عرف مكانه واستأجر غرفة فى نفس الفندق ..!
     ثم عاد السكون وخيم سكون مطبق ، ومضت دقائق طويلة ساكنة سكون الموت .. ذهب الرجل .. فكر إسماعيل فى هدوء ولكنه لم يتبادل مع ثريا كلمة ، عاد الصمت .. شبح الرجل فصل بينهما وأوجد فراغا رهيبا ..
     وجلسا جامدين .. وأمسك بيدها .. وضغط .. وهنا عادت الأقدام من جديد تجاه الباب ثقيلة مفزعة .. ثم خف صوتها وانقطع ..
     وتحرك إسماعيل وتناول علبة الكمنجة وفتحها وأخرج منها مدفعه الرشاش ، وثريا تنظر اليه صامتة فى ذهول ..
     ولما اتجه بمدفعه نحو الباب تعلقت به " ثريا " واحتضنته طويلا ..
     ولما سمعت صوت الرصاص فى الساحة ، اتجهت بسرعة إلى النافذة وقلبها يثب من صدرها .. وبصرت " باسماعيل " يطلق النار ..
     وكان قد أصاب الرجل ..
ولكنه ظل يطلق النار .. وعرفت أنه يوجد شخص آخر سيظل يشوش سكون الليل وأمن الحياة ..
وكانت على يقين أن " إسماعيل " لا يزال حيا ..
     ثم سمعت خطواته تقترب من الباب فمسحت عبراتها ..
========================== 
نشرت القصة فى مجلة الهلال بالعدد 10 فى أكتوبر 1973 وأعيد نشرها فى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
=========================














[1] - أغفل المؤلف اسم المدينة العربية عن قصد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق