الجمعة، 17 أبريل 2015



صوت البحر


     اشتغلت منذ سنوات فى مكتب للسياحة بشارع شريف بمدينة الإسكندرية .. وكان صاحبه رجلا إيطاليا يدعى « لوسيانى » كثير الأعمال ، واسع النشاط ، إذ كان يقوم بأعمال أخرى تجارية غير السياحة ، وكان لمكتبة فروع فى معظم الدول الأوربية .. كما كان له شركاء لا أعرفهم ، ولم أشاهد أحدا منهم فى مدينة الإسكندرية ..
     وكان هو قليل الإقامة فى هذه المدينة أيضا.. وترك إدارة عمل المكتب لشاب متجنس بالجنسية المصرية يدعى « ميشيل » وكان مثقفًا خبيرًا بشئون السياحة إلى أقصى مدى .. ويجيد أربع لغات حية ويعرف كل شبر فى مصر وفى كل بلد له أتصال بعمل المكتب .. وكان يعتمد علىَّ اعتمادا كليا إذا سافر إلى الخارج ..
    وكان فى المكتب ثلاث موظفات أخريات من خريجات المعاهد الأجنبية منهن مصريتان .. وكنا مع اختلاف ثقافتنا وسننا نكون مجموعة صالحة تجيد الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية .. ولم نكن فى حاجة إلى لغة أخرى بالنسبة لعمل السياحة ..
     وكان العمل فى المكتب متصلا طوال أيام الأسبوع فلا اغلاق فى يوم جمعة ولا أحد .. وكنا نتناوب بيننا يوم الراحة ونترك لكل منا اختياره حسب ظروف الأحوال .. وكثيرا ما كنا تحت ضغط العمل لا نستريح أبدا .. فقد كانت سمعة المكتب حسنة فى كل البقاع ..
      وكان شعارنا الأمانة والصدق وحسن اللقاء .. وهى صفات لم نكن نتكلفها بل كانت من طباعنا ..
     وكنت اتوجه إلى عملى فى الساعة التاسعة تماما من كل صباح لا أتأخر دقيقة ..
     وفى صباح يوم من ايام الأثنين .. وكانت الساعة التاسعة إلا ثلثا .. شاهدت وأنا أمضى على الرصيف الأيسر من شارع « النبى دانيال » سيدة تعلق بعض المجلات الأجنبية على واجهة محل .. ولم أكن قد لاحظت من قبل وجود مكتبة فى هذا الشارع على الاطلاق .. لأنه كان يختنق بدكاكين صغيرة على الصفين لا علاقة لها بالكتب .. دكاكين الأحذية ، والملابس الجاهزة ، والسجائر والحلوى ، وحقائب السيدات ..
     ووقفت أسأل عن جريدة « نيوز اوف ذا وارلد » فأجابت السيدة دون أن تتحول إلى ناحيتى ، ويدها مشغولة بترتيب مجلاتها :
     ـ انها تأتى فى صباح الثلاثاء ..
     وسألتها وأنا أتطلع إلى الواجهة ..
     ـ المكتبة جديدة .. ؟
     ـ إننا هنا من تسع سنوات ..
      وواجهتنى وهى تقول هذا .. بصوت فيه لذعة السخرية من غفلتى .. ورأيتها سمينة قليلا وتقترب من طولى وهى واقفة على الرصيف .. وأنا تحته .. حتى لا يحتك جسمى بجسمها ..
      وكانت قد شغلت الرصيف كله وفتحت « فترينة » المكتبة الخارجية لتضع فيها بعض الكتب الجديدة .. وانحنت ثم انتصبت فى رشاقة وسددت إلىَّ عينين فيهما من الشحوب مثل الذى رأيته على وجهها ..
     وقلت وبصرى مركز على شفتيها المنفرجتين ..
     ـ سأمر غدا ..
     ـ مرحبا ..
      وهبطت الدرجات وتركتنى اتطلع .. ولمحت المكتبة كلها فى عمق « البدرون وهى فى طول مع اتساع ، وممتلئة إلى السقف بالكتب ، فى تنسيق جميل ..
     وعجبت لغفلتى ، وكيف لم الاحظ وجود هذه المكتبة من قبل ، مع أنى أمر كثيرًا من هذا الشارع .. وهى قريبة من مركز عملى ، وكثيرا ما احتاج للصحف والكتب الأجنبية .. فكيف كنت أبعد وأذهب إلى غيرها ..
***
     وفى صباح الثلاثاء وجدتها فى الداخل ، وكانت فى رداء غير الذى شاهدته عليها بالأمس .. جونلة رمادية على بلوزة من « الجرسيه » والشعر مقصوص متموج .. والوجه أكثر شحوبا مما كان بالأمس .. والعينان العسليتان فيهما بريق مطفى ..
     وثبتت بصرها على وجهى برهة .. وأدركت أنها نسيتنى تماما ، ونسيت أننى طلبت نسخة من « النيوز » ..
وجاءت بالصحيفة .. ونقدتها اثنى عشر قرشا ثمنها ..
     وقلت أنا أقلب البصر فى رفوف الكتب :
     ـ كنت أود أن يكون لدى وقت .. لأرى هذا كله .. ولكن الساعة تقترب من التاسعة .. أمفتوحة المكتبة بعد الظهر ... ؟
     ـ المكتبة مفتوحة طول اليوم ..
     ـ طول اليوم .. ؟
     ـ لى شريكة تأتى بعد الساعة الثالثة .. وأنا فى الصباح ..
     ـ والكتب رائجة .. ؟
     ـ الحمد للّه .. اعتمادنا كله على مجلات الأزياء الآن ..
     وكانت لهجتها مصرية خالصة وسرنى ذلك وحييتها وخرجت ..
***
     وبعد يومين الفيتها وحدها فى الداخل كالعادة .. والساعة تقترب من الثانية والنصف بعد الظهر .. وحييتها بهزة من رأسى ، وأخذت استعرض الكتب الإنجليزية والفرنسية .. ولم أكن أبغى كتابا بعينه ..
     وسألتنى بعد أن رأتنى أطلع فوق السلم المعدنى وأنزل منه .. دون أن أقع على شىء ..
     ـ هل وجدت ما تطلبه .. ؟
     ـ أبدا .. ومازلت أبحث ..
     ـ رواية .. ؟
     ـ نعم ..
     ـ ما اسمها .. ؟
     ـ الثعلب .. هل شاهدت الفيلم .. كان فى سينما « أمير » ..
     ـ أبدا .. عن إذنك ..
     وهبطت ، وطلعت هى .. وترددت قليلا قبل أن تضع قدمها على أول درجات السلم ، لأنى كنت أقف تحته مباشرة .. وأصبح وجهها فى لون الكريز عدة ثوان ..
     ثم صعدت فى خفة رغم أنها سمينة نوعا .. ولكننى أدركت موقفها وما اعتراها من خجل فلم أرفع وجهى وهى صاعدة ورفعته وهى هابطة وبيدها الكتاب ، فتناولته من يدها ، وأمسكت بذراعها الناعمة حتى استوت على أرض المكتبة ..
     وكان الكتاب من طبعة « بنجوين » وأعرف ثمن هذه الطبعة فاخرجت الأربعين قرشا .. وسألتنى وأنا أناولها النقود ..
     ـ أترغب فى لفه .. ؟
     ـ لا .. شكرا .. سأقرأه فى الترام ..
      ولم يكن هناك سبب لبقائى .. ولكننى بقيت وأخذت أدير عينى فى عناوين الكتب فى الناحية التى وضعت فيها الكتب الفرنسية ..
     فسألتنى :
     ـ أتقرأ بالفرنسية أيضا ..
     ـ أجل ..
     ـ هذا جميل .. فالكتاب الفرنسى فقد سوقه عندنا منذ رحيل الأجانب ..
     ـ ستخرج المدارس الفرنسية غيرهم ...
     ـ أبدًا .. إن هؤلاء مع الأسف لا يقرأون إلا الكتب المدرسية ..
     والفيت المجال انفتح أمامى للمحادثة .. ولما كنت أعرف أن شريكتها تأتى فى الساعة الثالثة ، فقد شعبت الحديث ، وأطلته إلى أن تجىء الأخرى ويقع عليها بصرى ..
     وفكرت فى الأشياء التى تجعلها تستريح إلىَّ بعد أن لاحظت حالة المكتبة وما هى عليه من قلة الرواد ..
     فقلت لها :
     ـ أعرف أصدقاء كثيرين .. يشترون الروايات الأجنبية من " هاشيت " وغيرها .. وسأعرفهم طريق مكتبتك .. سيكونون زبائن جدد ..
     ـ شكرًا .. شكرًا ..
      وظهر على وجهها الفرح .. بدت ابتسامة خفيفة فى العينين الساكنتين .. وتكسر الجفن قليلا ، وعلت الوجنتين حمرة ورعشة .. وبدا الوجه أقل طولا مما هو فى الواقع ..
وظل جانب منها .. من عينيها ، وشفتيها ، يلاحظنى فى إصرار لأقول كلامًا أكثر .. كلاما كانت متعطشة إليه وفى أشد حالات اللهفة على سماعة.. ولكننى صمت ..
     وقلت وأنا أنظر إلى الساعة :
     ـ الساعة الثالثة وخمس دقائق .. لقد أخرتك ..
     ـ أبدا .. لابد أن أنتظر شريكتى ..
     ـ امعتادة هى على التأخير .. ؟
     ـ قليلا .. انها موظفة ..
     وقلت وأنا أهم بالذهاب ..
     ـ أشكرك .. سأذهب لأن مشوارى طويل ..
     ـ أين تسكن .. ؟
     ـ فى اسبورتنج .. وسأعود للمكتب فى الساعة الخامسة ..
     ـ أنا أقرب منك ..
     ـ أين .. ؟
     ـ فى الابراهيمية ..
     ولم اسألها ان كانت تسكن بالإيجار مثلى أم هو بيت الأسرة .. فقد صعدت درجات المكتبة ، وأستقبلنى جو الشارع البارد ..
***
     وانقضى الخريف ، ودخلنا فى الشتاء ، وأخذت أفواج السياح الأجانب تتوافد على الإسكندرية من البحر ..
     وكانت شركتنا تمتلك سيارة واحدة كبيرة تتسع لـ40 راكبا ويسافر فيها السياح فى جولات قصيرة إلى القاهرة .. ولزيادة العدد اضطررنا إلى استئجار سيارة أخرى وركبت مع السياح فيها كدليل .. وعدت بعد أسبوع مع الفوج ونحن نغلق المكتب فى التاسعة مساء ..
     ولما مررت على المكتبة وجدتها مضاءة ، ولم أجد صاحبتى ، وجدت شريكتها التى حدثتنى عنها من قبل .. وكانت أصغر منها سنا وأطول قامة ، وأكثر خفة حركة ورشاقة ..
     وسألتها عن « النيوز » ، وهى مشغولة بالحديث مع بعض الزبائن ..
     فقالت فى برود وهى تحدق فى وجهى بشدة ..
     ـ خلصت ..
     ولم تزد حرفا واستدارت إلى الزبائن .. وكان وجهها الجامد الخالى من كل تعبير لا يغرينى على محادثتها ..
     فتركتها وأنا أحاول أن أتذكر أين وقع بصرى على هذا الوجه من قبل .. ثم تذكرت أنها تركب ترام الرمل من محطة الابراهيمية فى ساعة معينة لا تغيرها .. وتدخل فى نفس العربة التى أجلس فيها ، وتحاول بقامتها الطويلة ، وشعرها الأسمر المتدلى وبعينيها الواسعتين أن تتلمس مقعدا فى زحمة الصباح .. فإن لم تجد لم تيأس وتظل واقفة .. فى مكانها من وسط العربة وعيناها تدوران فى كل اتجاه وحقيبتها ذات الحمالات على كتفها .. وما كان وجهها فى خلال المسيرة من الابراهيمية إلى محطة الرمل تتحرك فيه جارحة أو تحس معه بالحياة .. وانتقلت الصورة كما هى بكل صفاتها إلى المكتبة ..
     كانت عاملة الصباح بوجهها الشاحب ورقتها أكثر إيناسا لى .. وهناك أناس تراهم فى الحوانيت ، وتنفر من سحنتهم الكئيبة ، ومن خمود ملامحهم ويجعلونك لا تفكر قط فى شراء أية بضاعة منهم .. وان كانوا يبيعون أجود الأصناف على الأطلاق ..
     ولهذا نفرت من عاملة المساء ..
     وقل ترددى على المكتبة فى أثناء نوبتها ..
***
     ولما هبطت درجات المكتبة فى الصباح وجدت صاحبتى فى ركن تتعامل مع سيدة مسنة وشابة .. واستقبلتنى وأنا داخل بابتسامة خفيفة .. وتركتها حتى تفرغ منهما ..
     واشترت واحدة ولم تشتر الأخرى .. وخرجتا ..
     فرفعت إلىَّ وجهها كأنها تسأل :
     ـ أى خدمة .. ؟
     وكانت فى فستان برتقالى من التيل ، محكم التفصيل على جسمها المكتنز .. فأبرز مفاتن الجسد .. وأحمر وجهها قليلا لما لاحظت نظراتى التى ليس فيها أدب ..
     وقلت وأنا أرفع « دافيد كوبر فيلد » من الصف ..
     ـ لقد انقطعت لسفرى ..
     ـ أين كنت .. ؟
     ـ فى القاهرة .. رحلة للمكتب ..
     ـ وجبتلنا أية معاك ..؟
     قالت هذا بدلال وعامية حلوة وصوت أحلى ..
     فأخرجت سريعا علبة صغيرة من جيبى وقدمتها لها ..
     فتناولت العلبة وفتحتها وقالت فى دهشة :
     ـ هل أخذت المسألة جد ..؟ هذا لى .. ؟ !
     ـ بالطبع ..
     ـ سلسلة .. وكمان دهب .. ؟!
     ـ هذا قليل ..
     ـ وهل كنت تفكر فى أنا .. وأنت فى القاهرة ومعك نساء جميلات .. سائحات من كل جنس ..
     ـ أن هؤلاء لا يحركن مشاعرى أبدا ..
     ـ صحيح .. ؟
     ـ صحيح ..
     وضحكت .. ورف وجهها مثل الأرجوان .. وسددت نظراتها .. وفى تلك اللحظة شعرت بأنى أميل إليها .. ولا أدرى إلى أى حد ..
***
     وفى صباح الخميس ، وكنت أتقدم فى الشارع فى تؤدة .. لمحتها من بعيد ترتدى مريلة زرقاء وبيدها المكنسة ..
     وكانت تكنس الرصيف الواقع أمام المكتبة وحتى ما يجاوز ذلك بمقدار أذرع .. وأشفقت عليها وأكبرتها فى الوقت عينه .. فإنها تقوم بكل عمل بنفسها .. دون أن تستعين بخادم وكثيرا ما تحمل مجلات الأزياء إلى زبوناتها فى بيوتهن لتسهل عليهن عملية الشراء والتردد بانتظام على المكتبة ..
     ولم يظهر عليها الخجل أو تتوقف عن الكنس لما اقتربت منها .. وإن كانت يدها قد تباطأت قليلا .. وأزاحت خصلة من شعرها عن جبينها .. وانتصبت ترد على تحيتى ..
     فقلت بابتسامة :
     ـ خلى عنك ..
     ـ العفو ..
     وظلت الابتسامة الناعمة ترف على ثغرها ، وتركتها فى عملها وهبطت إلى قاع المكتبة .. وجاءت بعد قليل من الوقت فخلعت مريلتها وبدت تحت المريلة فى بلوزة بيضاء وجونلة زرقاء كأنها تستقبل بهما أسعد أيام الصباح .. وان كان الشحوب لا يزال يرى بعض آثاره على الخدين .. ولكن العينين أخذتا فى الالتماع ..
     وبدافع من الشفقة البحتة اشتريت كتابين لم أكن أبغى شراءهما ..
     وسألتها وهى تلفهما :
     ـ هل أنت مستريحة إلى هذا العمل .. ؟
     ـ وماذا أفعل غيره ..؟
     ـ توظفى مثلا ..
     ـ انى لا أحمل شهادات مجرد تعليم ثانوى فى المدارس .. الأجنبية ..
     ـ انهم لا يطلبون الشهادات بالنسبة للمرأة .. وتستطيع من تجيد اللغات الأجنبية أن تقوم بأعمال كثيرة .. لا تتطلب الشهادة .. كالسكرتارية .. والآلة الكاتبة مثلا ..
     ـ لقد قمت بعمل المكتبة وأنا صغيرة لأعول شقيقاتى بعد وفاة والدى وأمى .. كنت الكبيرة ولم يكن لهن عائل سواى .. وكنت أشترى لهن الكتب والكراسات من مكتبة بجانب بيتنا فى محرم بك .. فقلت لنفسى ولماذا لا أفتح أنا مكتبة ..
     وفتحتها وحدى فى شارع تانيس .. وبعد هذا جئت إلى هنا .. وأشعر بالاستقلال والحرية .. وقد خفت أعبائى الآن وتزوجت شقيقاتى الثلاث جميعا ...
     ـ وهل هن معك فى الإسكندرية .. ؟
     ـ أبدا .. انهن بعيدات عنى .. وأقربهن إلى متزوجة فى طنطا ..
     ـ لقد قمت برسالة عظيمة .. وأنت لماذا لم .. هل ..
     ـ لم أتزوج .. لقد شغلت بهن ونسيت نفسى .. حتى فاتنى القطار ..
     ـ أبدا .. لا تفكرى هكذا .. انك الآن فى سن الجمال الآسر ، فى أجمل ساعات العمر بالنسبة للمرأة .. فكيف تفكرين هكذا ..
     وتضرجت وجنتاها .. وأنفرجت شفتاها .. والتمعت عيناها .. وشعرت بأن كلماتى ردت النضارة إلى وجهها .. وأجرت الدم فى شرايينها ..
     وقالت هامسة :
     ـ بصراحة .. لم أفكر فى الزواج أبدا وشغلت بالعمل .. كما ترى ..
     ـ العمل .. جميل وطيب بالطبع .. ولكن لا تفكرى أن القطار قد فاتك أبدا .. فبعد عشرين سنة من الآن يمكن أن تقولى هذا ..
     فقالت برنة فرح ..
     ـ ما هذا .. ؟ !
     وضحكت جذلانة طروب ..
     وخرجت وأنا أشعر بالرضا .. لأنى حركت الرماد الذى كان خامدًا فى أعماقها ..
***
     وبعد هذا الحديث لاحظت أن أحوالها تغيرت تمامًا .. وأصبحت تعنى باختيار فساتينها ، وتتزين ، وتستقبلنى وهى متعطرة .. فى بشاشة تطل من العينين والشفتين ..
     وأصبح شراء الكتب لا يهمها .. بقدر ما يهمها حديثى .. وبمجرد دخولى إلى المكتبة .. أراها تفرغ مما فى يدها بسرعة .. لتقف بقربى وأنا جالس على الكرسى الذى أعدته لى بجانب الطاولة .. وأصبحت لا أشاهد من يجلس عليه سواى ..
     وكانت تستبقينى ويطول بيننا الحديث ، إلى أن تحضر صاحبتها التى تأتى غالبا بعد الساعة الثالثة ..
     ويحدث أحيانا أن أتأخر فى المكتب إذا أشتد ضغط العمل .. فإذا اتجهت إلى المكتبة الفيتها واقفة على الباب ونظرها معلق بالناحية التى أجىء منها .. فإذا أقتربت أرى كل جوارحها تتفتح لمقدمى كما يتفتح الورد للظل ..
     ولاحظت أنها تشعر بالغيرة الشديدة إذا تبسطت مع زميلتها فى الحديث .. أو جاوزت الحد إلى المداعبة الخفيفة .. مع أنى لم أكن أشعر بالميل نحو شريكتها أبدًا .. وكنت أحاول فقط بالمداعبة الخفيفة أن أذيب بعض جمودها وأن أجعلها تتيقن أن علاقتى « بصفية » لا تتعد ما هو يجرى عادة بين صاحب المتجر والزبون ..
    وعلمت أنهما تسكنان معا فى شقة واحدة فهما شريكتان فى البيت كما هما فى المكتبة .. « فصفية » لما أصبحت وحيدة فى الإسكندرية بعد زواج شقيقاتها .. أسكنت « عفاف » معها فى نفس الشقة .. والشقة ايجارها رخيص وتقع فى شارع تانيس ذلك الشارع الطويل الضيق ، الهابط الصاعد ، الذى يبدأ وينتهى إلى حدود الأبد ..
***
     وعرض فيلم جميل فى سينما « رويال » .. والسينما قريبة من المكتبة ومن مكتب السياحة .. ففكرت فى أن تراه فى يوم الأحد وهو اليوم الوحيد الذى تغلق فيه المكتبة ..
     ولما عرضت الرغبة على « صفية » قالت برقة :
     ـ آسفة .. لا أستطيع أن أرافقك إلى حفلة فى السينما .. فأنا معروفة فى هذا الحى .. وزبونات المكتبة كثيرات .. وأنت تعرف السنة النساء ...
     ـ الفيلم جميل .. وخسارة أن يفوتك .. وما دام وجودى معك يحرجك.. سأجىء بتذكرتين واحدة لك والأخرى لعفاف فى حفلة الساعة الثالثة ..
     ـ لا تكلف نفسك .. ولا تعود عفاف على السينما ..
     وابتسمت وأضافت :
     ـ وكفاية وجودنا مع بعض فى المكتبة ..
     تضايقت من رفضها رغم هذا الاعتذار الرقيق .. وبإحساس شاب فى مثل سنى لا يجد فى نفسه قبولا لمثل هذا الاعتذار ، وفى فورة غضب انقطعت عن زيارة المكتبة فى الصباح وأصبحت أمر عليها فى المساء .. أثناء وجود شريكتها عفاف ..
     والفيت هذه رغم برودتها وما فى وجهها من قبح .. تتفتح عواطفها إذا كنت معها وحدى فى المكتبة .. ولا يوجد زبون آخر .. وتتطلب فى هذه اللحظات المداعبة الصريحة والغزل المفتوح ..
     وتطورت العلاقة ولكنى وقفت بها عند حد النزهات الخلوية .. والقبلات والضحكات والسينما كلما غفلت عنا العيون ..
     وكنت أمنيها برحلة إلى باريس فى الصيف المقبل ..
     وكادت أن تستسلم لى بكليتها لمجرد الأحلام التى تدور فى ذهن الفتاة عن هذه الرحلة .. ولكننى لم أكن أحبها .. وعاملتها بلطف .. كما كنت أعامل رفيقاتى فى العمل فى مكتب السياحة اللواتى لم أكن أشعر نحوهن بأية عاطفة ، مع أن فيهن من تعد جميلة بين النساء ..
      ولكن هناك أحساس فطرى لا يمكن فهمه ولا تفسيره بعين العقل فى هذه الحياة .. احساس يقرب المرء من هذه المرأة وينفره من تلك ..
     وبهذا الاحساس عشت حياتى ..
***
     وفى الساعة الثامنة والنصف من صباح السبت ، وكنت أعبر إشارة المرور عند مقهى « التريانون » فى محطة الرمل ، تحت رذاذ المطر ، وجدت « صفية » تسير خلفى ..
     وقالت وهى تقترب بلهجة عتاب .. !
     ـ أكنت مسافرا .. ؟
     ـ أبدا ..
     ـ ولماذا لا أراك .. ؟
     ـ شغلنى عمل كثير فى المكتب ..
     ـ لا .. ليس هذا هو السبب ..
     ـ ما هو إذن .. ؟
     ـ اعتذارى عن السينما أغضبك .. ولماذا السينما .. نستطيع أن نكون مع بعض فى مكان آخر ..
     ـ ولكنى أصر على السينما ..
     وكان هذا حماقة منى .. وربما تكون السبب فى القطيعة .. وراعنى أنها أجابت فى رقة :
     ـ سنذهب إلى السينما ..
     وذهبنا إلى السينما فى حفلة الساعة الثالثة من اليوم التالى .. وكانت وادعة طيعة ، ومتعطشة لكل كلماتى فى الظلام ..
     وعرفت أننى أقيم فى شقة على البحر فى اسبورتنج ، وأنام مع صوت البحر وهدير موجه العالى .. ومازلت أصف لها الشقة وما فيها من جمال حتى تشوقت إلى رؤيتها ..
     وفى طريقنا إلى ترام الرمل ، اشتريت لها زجاجة عطر فرنسية من أجمل العطور فسرت بها كثيرا ..
***
     وأخذنا نخرج معا للتنزه .. كلما وجدنا الوقت والفراغ .. وكنا نختار الليل دائما .. ودخل الشتاء علينا ونحن لا نكاد نشعر بامطاره وعواصفه .. فقد كنا فى دفء من العواطف ..
     ولم أقل لها كلمة حب ، ولم تقل هى ذلك .. ولكن كل ذرة فى جسمينا كانت تنطق به .. ونسيت سمنتها والالتواء الذى فى ساقيها .. وأسرنى صدرها المكتنز .. وعيناها الساجيتان ، وشعرها المتموج ، والرقة التى فى حديثها ..
     كانت تفيض بالعواطف الزاخرة .. وعرفت بيتها وعرفت بيتى .. ولكننا لم نتزاور بعد .. وقد مضت شهور طوال على أول لقاء ..
***
     وفى ليلة من ليالى مايو .. وكنا راجعين من استانلى .. نزلنا من الترام فى اسبورتنج ونزلت معى صامتة دون أن تفتح فمها بكلمة .. أحسست بأنها مأخوذة بشىء لا تستطيع مقاومته ولارده .. شىء أقوى من كل إرادة للأنثى ..
    ودخلنا شقتى .. ولما أصبحنا فى البهو الصغير وأغلقت الباب ورائى تعانقنا فى الظلام قبل أن ندير مفتاح النور ..
     وكنت رقيقا وأنا أفك أزرار ثوبها .. وأحسست بها متعطشة للحب الذى جاءها قبل فوات الأوان ..
     واخترنا شاطئ أسبورتنج للاستحمام أيضا ... وكنا نهبط فى اتجاه البحر من سلم صغير أمام باب الشقة .. وكان المكان الذى اعتدنا الاستحمام فيه حجريا كثير الصخور .. ولكنه غير عميق لأنها لا تعرف السباحة .. وهو آمن من السيف الرملى الذى يقع بجوار الكازينو .. والذى كثيرا ما يعصف فيه البحر ويعلو موجه ..
     ولم يكن فى الجوار أحد فى هذا الصباح المبكر قبل الشروق بكثير ..
     ودخلت الماء بصدرها ثم انتصبت فتساقط الماء مثل حبات الدر على خطوط جسمها اللدن .. وتقدمت فى حذر حتى بلغ الماء ردفيها المكتنزين .. وسمعتها تنادينى ..
     ـ عزت .. تعال .. أنا خائفة ..
     فأسرعت وأمسكت بيدها ..
     وكنا نشاهد على ضوء الصباح الشاحب ، زوارق الصيادين هناك على خط الأفق ، واقفة فى نصف دائرة .. وأنوار قناديلها لازالت تشع ، وقد أخذت تسحب شباكها بعد أن ظلت طوال الليل تغرى السمك بالفوسفور البراق ، وبكل الحيل التى يعرفها الصيادون فى البحار الساكنة ..
     ومالت برأسها على صدرى فى الماء فأحتضنتها وغطست بها .. وأحسست بكل ما فيها من نعومة وفتنة تحت ملمس أصابعى .. وطال بقاؤنا فى البحر حتى أحسست بالبرد .. فأخذنا طريقنا إلى الشاطئ فى حذر حتى صعدنا إلى الشارع الخالى من كل إنسان ..
***
     وأصبحت « صفية » تقرع بابى فى ساعة معينة ..
     ومرت أيام جميلة ..
***
     وفى ليلة من ليالى الصيف الشديدة الرطوبة .. خلعت « صفية » بلوزتها وجلست على حافة السرير ..
     وقالت من غير تمهيد :
     ـ إنى حامل ..
     وشعرت بسكين حادة تنغرس فى قلبى ، وسألتها وفى صوتى رجفة الخوف :
     ـ هل أنت على يقين ..؟ يحدث كثيرا أن تنقطع .. 
     وقاطعتنى قائلة :
     ـ إنه الشهر الثالث ..
     ـ لا داعى لأن تضطربى .. فالمسألة أصبحت سهلة للغاية فى هذا العصر .. والأطباء كثيرون ..
     وسألت بجفاء :
     ـ أية مسألة .. ؟
     ـ التخلص من الجنين ..
     ـ ومن الذى قال لك أننى أريد التخلص منه .. ؟
     ـ كل سيدة تفعل هذا ما دامت غير متزوجة ..
     ـ ومن حدثك بأنى غير متزوجة .. ؟
     ـ لم أكن أعرف هذا .. من هو ..؟
     ـ أنت .. ومن كل كلامك المعسول عرفت رغبتك الأكيدة فى الزواج منى .. فلماذا تراوغ الآن كالثعلب .. سنتزوج قبل الفضيحة ..
     ـ لم أستعد للزواج الآن .. وهو مسئولية وأعباء .. وأنا بحكم عملى فى مكتب للسياحة كثير الأسفار إلى الخارج .. وأحيانا يطول غيابى إلى سنة .. ومتى وجدت وظيفة أكثر استقرارا أعدك بالزواج ..
     ـ إذا لم تقبل الزواج الآن .. سأحتفظ بالطفل ...
     ـ هذا جنون .. وسمعتك .. لقد كنت تخشين السنة الناس من مجرد ذهابك إلى السينما ..
     ـ ولكننى الآن لا أعبأ بشىء وسأحتفظ بالطفل ، لأنى فى حاجة إليه .. فى حاجة إلى رجل يقف بجانبى .. فى حياتى وعملى .. سأحتفظ به ..
      وتنمرت سحنتها .. وخشيت أن يتطور الحديث معها إلى عراك .. فتركتها وحدها .. وخرجت إلى الشارع ..
     ثم رجعت إلى نفسى ، وأدركت أن من الصالح لى أن أجاريها فى رغبتها فى الزواج ، لأمنعها من اثارة فضيحة .. ولذلك عدت إليها وأخذت أطمئنها .. ووعدتها بالزواج بمجرد تسلم المكافأة من الشركة التى يوزعها علينا « لوسيانى » عند مقدمه من أوربا .. لنستطيع بهذه المكافأة أن نؤثث بيتا جميلا يليق بنا .. واقتنعت .. وعاد إليها الصفاء ..
     وأصبحت تجىء إلى شقتى فى اسبورتنج ، وهى مطمئنة غاية الاطمئنان .. كما كنت أذهب إلى بيتها فى الليلتين اللتين تغيب فيهما زميلتها « عفاف » وتسافر إلى أهلها فى دمنهور .. وكانت تسافر مساء الخميس كل أسبوعين .. وتعود فى صباح السبت إلى المصلحة مباشرة .. فكنا نقضى مساء الخميس ومساء الجمعة أنا وصفية معا فى عناق متصل .. وشعور بالراحة النفسية والحرية لأننا وحدنا فى البيت ..
     وكنا نتخفف من ملابسنا ونستحم معا فى الحمام .. ونغطس فى البانيو الدافئ ..
     وقد ولد عندى الحمام والسخان فكرة رائعة .. وجدت فيها خلاصى .. ولكننى أجلتها إلى حين ..
***
وسيطرت عليها فكرة الزواج .. سيطرة تامة فكنا نتحدث عنه فى الصباح والمساء وفى كل وقت نلتقى فيه ..
     وكانت تقول لى أن صاحبة لها وجدت شقة فى ميامى .. أو فلمنج .. أو كليوباترا .. من البيوت القديمة ويطلب أصحابها خلوا ليس فيه مغالاة .. وتحت رغبتها كنا نذهب أنا وهى ونرى هذه الشقق لأزيد من اطمئنانها إلى وعدى ..
     وفى كل شقة يظهر العيب واضحا .. فكنا نعود من الجولة دون نتيجة ..
     واخيرا استقر رأينا على شقة جميلة فى الشاطبى .. ووجدناها الأحسن لنا فهى قريبة من مكان عملها وعملى .. كما أنها فى عمارة حديثة البناء وايجارها مقبول .. ونستطيع تأثيثها بسهولة بأثاث جديد لأنها من حجرتين فقط .. وحصرنا تفكير المستقبل فيها ..
     وكنت إلى هذه اللحظة أشك فى الحمل وأتصور أنها لعبة جهنمية لعبتها لترتبط بى .. ولكننى تأكدت منه ذات ليلة وأنا فى بيتها .. وكانت تتجرد من ملابسها فى غرفتها ولا تتوقع دخولى عليها .. فلاحظت البروز بوضوح .. وأصفر وجهى فإن هذا الشىء لا أحبه أبدًا .. يكون لى نسل منها .. ؟ لا .. لا .. أبدا .. أبدا .. وساقنى التفكير المرعب إلى حالة جنون ..
***
     وحدث فجأة ما شغل كل وقتى .. فقد كان هناك فوج من السائحين الأجانب عائد إلى جنوا على سفينة تركية بعد عدة أيام .. فوجدت الفرصة متاحة أمامى ، وأبديت لمدير المكتب رغبتى فى أن أسافر مع هذا الفوج على نفس الباخرة .. وأشتغل فى " جنوا " أو " مارسيليا " الأشهر المقررة لكل منا فى الخارج .. ووافق وبدأت الاتصالات بمكتبنا فى جنوا .. وبدأت أجهز جواز السفر والاجراءات كلها ..
     وأخذ ذهنى يشتغل فى الوقت عينه بما هو أهم عندى .. ووجدت فى السفر الفرصة الذهبية لتنفيذه على الفور ..
     وتحدد يوم السفر وتمت جميع الاجراءات وبقى على ميعاده خمسة أيام قضيتها مع « صفية » فى نزهات ليلية متصلة ..
     وكتمت عنها خبر السفر طبعا .. وأكثرنا من الحديث عن الزواج وما يدخره لنا المستقبل من هناء ..
     وفى صباح الثلاثاء ، علمت منها أن عفاف مسافرة إلى دمنهور فى مساء الخميس كعادتها .. فطار قلبى من الفرح ..
     وفى مساء الخميس أعطتنى « صفية » المفتاح .. فدخلت الشقة قبلها .. وأغلقت هى المكتبة قبل ميعادها بساعة وجاءت منشرحة تواقه للعناق ..
     وفى صباح الجمعة استيقظت قبلها ودخلت الحمام .. وأشعلت السخان وأخذت أعاين الجهاز بدقة وتناولت الخرطوم .. ووجدت أن الثغرة فيه تكفى ..
     وبعد خروجى من الحمام كانت قد استيقظت فسألتنى :
     ـ هل أخذت الحمام .. ؟
     ـ أجل ..
     ـ سأعد الشاى واستحم مثلك .. لقد تأخرت عن المكتبة ياعزت .. بسبب حبى لك .. وجنونى بك ..
     ـ اليوم جمعة .. والتأخير ساعة لا يهم ..
     وفرغنا من الشاى ..
     وتناولت هى البرنس وملابسها الداخلية .. وبصرت بى خارجا من الحمام وهى تستعد لدخوله ..
     فسألتنى :
     ـ هل نسيت شيئا .. ؟
     ـ نسيت الساعة .. وأشعلت لك السخان .. لأنه يعاكس ..
     ـ شكرا ..
     ودخلت الحمام وأغلقت الباب .. وسمعت صوت الدش .. وظللت أسمعه .. واستمر صوته .. ولم ينقطع تدفق المياه ..
وشممت رائحة الغاز يتسرب من فرجة الباب ..
     وخيل إلىّ أنه ملأ جو الشقة فارتديت ملابسى على عجل ..
     وعدت إلى باب الحمام فلم أسمع صوتها .. وكان من عادتها أن تغنى وهى واقفة فى البانيو ..
     واستمر صوت الماء ..
***
     وخرجت سريعا من باب الشقة .. واجتهدت ألا ترانى امرأة البواب وأنا أجتاز عتبة العمارة ..
     واتجهت مباشرة إلى المكتب وكنت هادئ الأعصاب إلى الحد الذى جعلنى أعجب لحالتى ..
     وبعد اغلاق المكتب .. ذهبت إلى السينما ثم دخلت حانة لأشرب وأثقل رأسى وأنام ..
      ولما فتحت باب شقتى الصغيرة فى اسبورتنج وتمددت على السرير لم أنم .. وظللت أسمع صوت البحر ..
     كان يهدر فى غضب .. لم أسمعه فى مثل هذه الحالة من الهياج أبدا .. كان موجه يعلو على رصيف الشارع ويضرب بابى المغلق .. والرياح من ورائه تصفر ..
     كان البحر يحكى فعلتى وكل ما فعله ويفعله الإنسان بأخيه الإنسان فى هذا العالم المضطرب المتوحش منذ الأزل من عهد قابيل وهابيل ..
     كان يحكى والرياح تصفر ..
***
     وأغلقت أذنى ، وأغلقت عينى ، واسترخيت .. لم أعد أسمع صوت البحر .. بعد يومين ستقلع الباخرة .. وسأسافر وربما إلى الأبد ..
***
     وتنفست الصعداء .. وأنا أدخل من باب الميناء .. وكدت من الفرحة أن أصرخ ..
      وقدمت الجواز ودخلت الصالة الواسعة .. والباخرة أمامى على الرصيف ..
      وكانت معى حقيبة واحدة ومر كل شىء سريعا ..
     وفى مكتب بوليس الميناء .. نظر الضابط إلى الجواز .. وإلى وجهى .. ثم طوى الجواز ..
     وقال لى وهو يبتسم :
     ـ استرح لحظة ..
     ـ أهناك شىء .. ؟
     ـ سيدة تنتظرك فى الخارج .. وتريد وداعك ..
      ونظرت من وراء الزجاج فوجدت « صفية » واقفة هناك فى الخارج عند صالة الجمرك وقد ظهر بروز بطنها بوضوح من خلال ثوبها الضيق ..
===============================  
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 689 بتاريخ 17/8/1982وأعيد نشرها فى كتاب " صورة فى الجدار سنة 1980 وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
======================================



المفتــــاح

     ضغط على الجرس فى رفق .. وفتحت " الشغالة " الباب فدخل متأنيا حابسا صوت قدميه بعد أن طالعه السكون التام من داخل الشقة .. إذ لم يسمع حسا على الاطلاق ..
     وجلس على أول مقعد وقع عليه بصره فى البهو .. وهو يدير عينيه فيما حواليه باحثا فى قلق عن الشىء الذى جاء من أجله ..
     وسأل الشغالة فى لهفة :
     ـ أين الست يا سعدية ..؟
     ـ نائمة .. ومن الصبح لم تقابل أحدا ..
     ـ هذا أحسن .. دعيها تستريح .. ولا داعى لإخبارها بقدومى إلا بعد أن تصحو ..
     ـ حاضر ..
     ورأت على وجهه الارهاق الشديد والحاجة إلى النوم فسألته هامسة :
     ـ أعمل لك قهوة .. يا سى هشام ..؟
     ـ طيب ..
     وانسابت " الشغالة " فى سكون إلى الممر المفضى إلى المطبخ وأصبح هشام .. وحده فى الصالة يسمع دقات قلبه ودقات الساعة المعلقة على الحائط فى مواجهته .. واستراح إلى الضوء الشاحب الذى وجده داخل البيت كله .. فالإضاءة كانت خفيفة وجميع النوافذ الخارجية كانت مغلقة والستائر مسدلة ..
     واستراح إلى كل ما فصله عن العالم الخارجى الذى قدم منه منذ لحظات ..
     وأحس بالدفء بعد البرودة الشديدة التى شعر بها وهو فى الخارج .. وكانت الليلة شتوية متقلبة الريح غائمة ..
     وأحس لأول مرة فى حياته رغم قلة الضوء بالأشياء التى حوله .. كأنه يدخل هذا البيت لأول مرة .. أحس بالكراسى والمناضد الصغيرة .. والصور على الجدران والساعة على الحائط ..
     كانت كل هذه الأشياء كئيبة وحزينة كأنها تحس بغيبة صاحبها .. بغيبة من كان يعطيها شكلها ولونها ..
     وأجال طرفه فيما يحيط به وحدق ساهما .. وبدا كل شىء حزينا قاتما يثير الشجن عند لمسه .. وبمجرد رؤيته .. وغاب فى تيه من الفراغ .. وجلس واجما مطرقا .. وقد اجتمع عليه بؤس الحياة وشرها فى لحظة ..
     ثم رفع رأسه عندما أحس بحركة خفيفة فى غرفة " سهير " وأدرك أنها نهضت من الفراش ..
     أحس بهـا وهى رائحـة وغـادية فى الغرفة فى ثوبها الأسود محلولة
 الشعر .. مهدلة الثوب .. غير عابئة بزينتها كأنثى فى رونق شبابها ..
     ثم رآها تجلس منحنية على الكرسى الوحيد فى الغرفة وهى تتشنج وسمع بكاءها ونشيجها .. وشاهد وهو جالس تقلصات جسمها وتشنيجه .. ولكنه لم يستطع أن يدخل عليها الغرفة ويفعل شيئا لإسكاتها ..
     وأدرك أن " الشغالة " أخبرتها بحضوره فأثار هذا ذكرياتها وشجنها .. أثار عواطفها وأطلق أحاسيس قوية كانت محبوسة ..
     كان الباب الموارب يسمح له بأن يراها بكل جسمها وهى منثنية بجانب على الكرسى .. طاوية جذعها .. ودائرة برأسها نصف دورة حتى لاتراه ..
     ولكنها فى غفلة منه وضعت على رأسها شالها .. فعرف أنها نهضت وتناولت الشال ثم رجعت إلى مكانها دون أن يشعر بها ..
     ورغم الجلسة المنثنية والتى تبدو غير مريحة على الاطلاق .. فقد بدت قامتها الطويلة وبدت رشاقة جسمها .. ودوران كتفها .. وامتلاء صدرها .. الذى كان الثوب الصوفى يغطيه بقوة ويضمه .. ولكنه لا يخفى تقاطيعه ومفاتنه ..
     وظهر الجيد أبيض ناعما .. فقد انحسر الشال الأسود عن شعرها الفاحم .. وعن عنقها فى لحظة غير واعية من لحظات الانفجار الحسى ..
     وأبصر أنها تلفتت تجاهه ورأته ثم حولت رأسها على عجل بحركة انثوية عفوية تفعلها الأنثى بالغريزة فى ساعات الحزن العصبية ..
     وانتصبت تتمشى فى الغرفة تروح جيئة وذهابا ..
     وفى أثناء هذه الحركة الرتيبة التى كررتها دون ملل عشرات المرات غطت بالشال شعر رأسها الأسمر المتموج كله وأذنيها الصغيرتين وجيدها ونصف خديها ..
     ولمح فى ساقها جوربا أسود طويل العنق يصل إلى الفخذين وينثنى هناك طيتين ثم يترك لون المرمر ونعومته فى نصف دائرة كاملة .. ويتيه بعدها البصر فى سواد الحرير المنحنى ونسجه ..
     ووضعت فى القدمين حذاء أسود مطفى اللمعان .. وكانت قد خلعت فردة من الحذاء أثناء مشيها فى داخل الغرفة .. ثم جلست لتلبسها .. وواجهته هذه المرة بوجهها الشاحب وعينيها المخضلتين بالدمع ..
     ومسحت عينيها بمنديل صغير طوته كثيرا حتى تكرمش .. وخطفت نظرة فى المرآة ثم خرجت إليه متثاقلة تمسك رأسها وعبراتها ..
     ومد إليها يده .. فتناولتها فى استرخاء .. وأحس بيدها باردة رخصة .. وواجهته بعينين واسعتين فيهما من التساؤل أكثر مما فيهما من الحزن ..
     وسألته بصوت حزين :
     ـ أجئت من مدة ..؟
     ـ من ربع ساعة ..
     ـ لم أحس بك .. إلا منذ قليل ..
     ـ أعرف هذا ..
     وهمت .. ثم سمع منها صوتا رخيما يختلف فى جرسه ونبراته ..
     ـ وهل وصل ..؟
     ـ وصل بعد الظهر إلى الإسماعيلية .. ونقلناه إلى القاهرة منذ ساعة ..
     ـ أحملوه إلىَّ فى الصباح .. سيبقى معى اليوم بطوله ..
     ـ حاضر ..
     وخشى أن يقول لها أنهم دفنوه وأنه جاء إليها بعد الدفن مباشرة .. خشى أن يقول لها هذا فيتمزق قلبها ويبح صوتها من النحيب وكان قد حمل متاعه .. قلمه ومحفظته وساعته وملابسه .. وأبقاه فى بيته بعيدا عنها فى هذه الأيام الحزينة عليها وعندما تتماسك وتملك زمام نفسها سيقدم لها هذه الأشياء التذكارية ..
     وسألته :
     ـ شربت قهوة ..؟
     ـ شربت ..
     ـ وتشرب معى ..؟ أحس برأسى ينفلق نصفين ..
     فهمس :
     ـ أشرب ..
     وغابت عنه ولاحظ أنها وهى ذاهبة إلى المطبخ تمشى بنفس الخطوة السريعة وتتحرك بمثل نشاطها الذى جبلت عليه .. فلم يغير الحزن من حركتها ..
     وحملت له " الكنكة " على الصينية كعادتها معه .. وصبت فى فنجانه ونظر إلى عينيها وترقرقهما بالبكاء وإلى أهدابها .. ولون خديها وشفتيها .. وأدرك كيف يظل الجمال الآسر باهرا حتى فى أشد حالات الحزن ..
     وسمعها تقول بعد أن وضعت الفنجان :
     ـ وما الذى ستفعله أنت ..؟
     فأجاب مرتبكا :
     ـ أنا ..! أى شىء ..؟
     وارتفع صوتها :
     ـ ما الذى ستفعله لتثأر لصديقك الأوحد ..؟
     ـ ما الذى أفعله أنا ..؟
     ـ أجل ..
     واحتد صوتها وحدقت فى وجهه بعينين فيهما من الغضب أكثر مما فيهما من الوداعة التى الفها منها ..
     ـ أنا .. لا شىء .. لقد عبر ليقاتل فقتل .. وهذا يحدث لكل انسان ..
     ـ وأنت تفعل مثله .. تعبر من نفس الموضع ..
     ـ أنا .. أكون قاتلا .. ؟ لا ..
     ـ وإن لم تكن قاتلا .. ستكون مقتولا ..
     ـ أنا ..؟
     ـ أنا .. وأنت .. والذى قتل " مصطفى " وقتل النساء والأطفال فى بيوتهم ومدارسهم سيقتلنى ويقتلك ..
     ـ لا أحب أن أكون قاتلا ..
     ـ أنت جبان ..
     ـ أبدا .. وأنت تعرفينى ..
     ـ إذن فلازلت تشعر بالمرارة فى فمك لأنهم تركوك فى البعثة .. وأخذوا غيرك ..
     ـ وغير هذا كثير ..
     ـ أنس كل شىء .. أنس هذه الصغائر لأننا فى محنة .. واثأر لصديقك .. لا أحد يفعل هذا غيرك .. فقد لازمته ملازمة الظل خمسة عشر عاما ..
     ـ يفعل هذا غيرى ..
     ـ بل تفعله أنت .. لأنك متدرب على القتال وجاهز .. وستحمل
 نفس مدفعه ونفس خنجره .. وستضربهم نفس الضربة التى أصابت صديقك .. ستضرب فى القلب ..
     ـ لا أحب أن أكون قاتلا ..
     ـ ستكون .. وإلا .. لن ترى وجهى ..
     فارتجف .. وارتعدت أوصاله .. وأمسك بيدها ..
     ـ أترك يدى .. انك جبان .. وتحشو رأسك بالسفاسف .. اننا فى محنة ..
     ـ وهل أنا مسئول عنها ..؟
     ـ انه وطنك .. أرضك .. وترابك وعرضك ..
     ـ أنا طبيب ..
     ـ وما الذى ستفعله بطبك عندما يضمنا التراب ..
     ـ كثير علىَّ أن أكون قاتلا ..
     ـ إذا لن أجعلك ترى وجهى بعد اليوم ..سأرحل ..
     وأعرضت عنه .. وأخذ فمها يرتعش .. فاصفر لونه وتمشت فى أوصاله رعدة شديدة وتركته واستدارت ودخلت غرفتها ..
     وعادت تحمل شيئا فى يدها ..
     وحدق فيه مستغربا ..
     ـ من أين جئت بهذا ..؟
     ـ كان عندنا .. ولم يستعمله " مصطفى " وستستعمله أنت ..
     ومدت يدها .. فتناول منها " الرشاش " صامتا ولم ينبس ..
     وقالت بهدوء وقد ظهر الارتياح على وجهها :
     ـ سأجىء لك بحقيبة تضعه فيها ..
     وحمل الحقيبة ومشى إلى الباب .. وتذكر شيئا كان قد وضعه فى جيبه وكاد ينساه فأخرجه بسلسلته الصغيرة وقدمه لها وهو يهمس بحزن :
     ـ المفتاح .. وجدته فى جيبه ..
     ـ أبقه معك ..
     ونظرت إليه ففهم غرضها وشعر بانتفاضة وقوة ووضعت يدها على كتفه .. واستدار وخرج ..
***  
     وفى الصباح شعرت بالقلق .. انتابها قلق قاتل .. وندمت على أنها دفعته إلى القتال .. وخشيت أن تكون السبب فى فقده وكفكفت من عبراتها .. وأصبح تفكيرها كله فى هشام .. شغلت به وأصبح يتحرك معها فى حجرات البيت وأركانه .. ويدور ويسمع همسها ..
وكانت تستيقظ فى الليل على أحلام مروعة وأحلام ذهبية .. وتطالع الصحف فى لهفة علها تسمع عنه خبرا .. ولكنها لم تعثر على شىء ..
     وعاشت حزينة ملتاعة ولم تكن وهى الوحيدة فى بيتها تحاول الاتصال
بأحد من الناس فى هذه المدينة الضخمة .. القاهرة ..
     ومن البداية صدت كل الذين حاولوا أن يجعلوا من مقتل زوجها صورة رخيصة للدعاية .. فالوطنية فى نظرها عمل سام ومقدس ويجب ألا يلوث قط ..
***  
     وذات صباح وصلتها رسالة من هشام .. سرت بها وبكت فى وقت واحد .. فقد أخبرها بدفن زوجها فى اليوم التالى لمصرعة فى مدافن أهله بالبساتين .. وأبدى أسفه أنه كتم عنها الخبر فى وقتها حتى لا يروعها .. وهو يرجو أن تغفر له ما فعله بعد أن رأى فيه عين الصواب وعند عودته سيزور معها القبر ..
     وبكت " سهير " لأن الرسالة أثارت أشجانها وسرت لأن هشام لا يزال حيا .. وإن لم تعرف مكانه ..
     وكفكفت من عبراتها .. وأصبح تفكيرها كله فى هشام .. شغلت به وأصبح يتحرك معها فى حجرات البيت وأركانه ويدور ويسمع همسها ..
     وكانت تستيقظ فى الليل على أحلام مروعة وأحلام ذهبية ..
     ذات مرة تراه عابرا القنال وحده فى كيس من المطاط .. وعلى وجهه ابتسامة المنتصر .. ومرة أخرى ترى معه ثلاثة من الرفاق مجهزين بمثل عدته من السلاح والخناجر .. وأجهزة اللاسلكى والرصاص يتطاير حولهم ..
     ثم تراه يعبر وحده فى صحراء سيناء يبحث عن الطريدة .. يبحث عن قاتل " مصطفى " وتراه قد أصيب برصاصة ولفظ .. وهو يجود بأنفاسه اسمها مرتين .. " سهير .. سهير .." من يسهر عليك من بعدى .. وأنت اليتيمة الوحيدة ..؟
***   
     استيقظت فى الصباح مذعورة .. ووجدت نفسها تندفع إلى تنفيذ فكرة سيطرت عليها تماما .. منذ سفره .. وبعد الحلم قررت تنفيذها ..
     وعلى عجل ارتدت معطفها الأسمر وخرجت فى الصباح المبكر تبحث عن سيارة تقلها إلى السويس ..
     ووجدت سيارة بعد ساعة من البحث حملتها مع ثلاثة آخرين من الركاب ..
     وعجبت بعد أن تحركت بها السيارة كيف تركب مع غرباء لا تعرفهم .. ولكن اللهفة على لقاء هشام وتعرف أخباره أنستها كل ما تعودت عليه من حيطة فى مثل هذه الأحوال ..
     ولم تبلغ الرحلة غايتها فقد أعيدت السيارة بركابها فى ثلث الطريق .. إذ كانت فى السويس معركة بالمدفعية والطائرات منذ الفجر ..
     ورجعت حزينة كسيرة القلب وسيطر عليها احساس مدمر بالقلق جعلها تعيش كالشبح .. وأدركت أنها كانت السبب فى فقد صديقها الوحيد فى هذه الحياة .. والرجل الذى كانت تجد فيه العوض عن زوجها والبديل ..
***  
     ومر شهر .. و .. شهر آخر .. وهى فى قلق وتعاسة .. لاتسمع عن هشام خبرا .. ولاتقرأ كلمة .. فانتابها المرض وأصبحت حبيسة البيت وهى أشبه بالمشلولة ..
***  
     وفى ليلة من ليالى الشتاء الباردة وكانت " سهير " ساهرة تحت مرضها وهى فى أشد حالات المرض .. أحست بحركة المفتاح فى الباب الخارجى فنهضت فرحة لتستقبله بقميص نومها .. فلا أحد غيره معه المفتاح ..
     وأضاء هشام مفتاح الردهة وبدا أمامها عملاقا رغم شحوبه وهزاله وعانقته بحرارة الأنثى وهى تجد أمامها بطلها قد عاد إليها فجأة بعد طول عذاب ويأس ..
     ولما أخذ يهمس بما فعله ليثأر لها .. مرغت شفتيها فى فمه الملطخ بالتراب والعرق لتسكته ..
     فلم تكن تريد من الحياة أكثر من ضمه إلى صدرها ..
======================================== 
نشرت القصة فى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
=========================================


طلقة فى الظلام

       
 كانوا ثمانية خرجوا فى الظلام من مدينة "العريش" والعدو على مبعدة ثلاثة كيلو مترات منها .. وهدير القصف يسمع فى كل مكان ..
     وعندما تجاوزوا حدود المدينة وجدوا خلقا كثيرا يتحرك مثلهم إلى الغرب ..
     واكتسحت الجموع الطريق الضيق ، كانوا يسيرون فى مشقة ، وقد اختلط الحابل بالنابل ، والرجال بالنساء ، والأطفال بالشيوخ ، والعذاب يلفهم فى كل خطوة ..
     كانت الحرب تتحرك بسرعة رهيبة .. والحياة نفسها تتحرك فى قلوب هؤلاء المشردين بسرعة ولهفة ..
     وكانت السيارات قد اختفت عن المنطقة كلها ، أخذها من سبقهم إلى الفرار .
     والطريق المألوفة قـد خربت بالقنابل لتعوق المدرعات من الانسحاب ، فاضطر الأهالى إلى الاتجاه إلى البحر ، والتفرق فى صحراء سيناء ، وساروا على وجوههم .. وكانت الأرض والسماء ملفوفتين بالدخـان والنار .. والطيـور تطير مذعورة وريح الصيف تزفر نارا وبخارا ..
     وكان القلق يعصف برؤوسهم ..
     وظلوا يسيرون طوال الليل ، والقنابل تتناثر حولهم ، ودوامات الرمال تثور فى وجوههم والفراغ الرهيب الذى يحدث من الانفجار يعريهم من ثيابهم ، ويطير متاعهم من أيديهم ..
***
     ورغم تفكك الجموع .. ظل الثمانية كما هم .. وكانوا جميعا من الموظفين المصريين الذين يعمـلون فى العريش ومن بينهم سيدتان ..
     ورغم تزايد عدد الرجال على النساء فى هذه الرحلة الرهيبة فقد استراحت المرأتان إلى الصحبة ..
     ولم تكن بين هذه الجماعة أية علاقة عمل أو جوار .. ولكنهم اجتمعوا على الطريق لغرض واحد ..
     وساروا أولا حـذاء البحر ، والنخيل الكثيف النابت فى الماء على يمينهم يتمايل ويلطف الجو كله . فلما جاءتهم أنباء بنـزول الأعــداء من ناحـية البـحـر ، غيروا اتجاههم ودخلـوا فى الصـحراء ..
     وبعد نهار خانق وشمس حامية ، ورمال حارقة .. عثروا فى الليل على سيارة قديمة ، وقبل سائقها بعد مساومة طويلة ، وبعد الضراعة ، وكل ضروب التوسل .. قبل أن يحملهم إلى القنطرة شرق وهم وحظهم فى العبور .. !
     وتقاضى منهم الأجر مقدما قبل أن يضعوا أقدامهم فى العربة .. تقاضى منهم أجرا باهظا كأنه سينقلهم إلى أوربا .. ودفعوا صاغرين ولم يتعجبوا إنها دقات الحرب ونوازعها الشريرة فى النفوس الوضيعة ..
     وقال السائق القصير العنق ، النمش الوجه ، الأحمر الشعر ، بعد أن تحرك بالسيارة فى طريق ملتوى يعرفه أمثاله :
     ـ سنتعرض فى الطريق للتفتيش .. فقد نزلوا بالمظلات وهم الآن أمامنا ..
     ونظر للسيدتين بخبث فالتهب وجهاهما ..
     ثم أضاف :
     ـ وأرجو ألا يكون معكم سلاح .. وإلا تعرضنا للمهالك ..
     فلم يرد عليه أحد .. كان الانكسار قد سحق مشاعرهم ، وجمـد إحساسهم ، فلم يعودوا يعبأون بأى شىء يقع لهم . وكانوا قد خرجوا من بيوتهم دون أن يتزودوا بزاد الطريق ، حمـلوا نقودهم فقـط ، وتركوا كل شىء آخر ، ومنهم من نسى حتى ذلك ..
     ولم يجدوا على الطريق من يبيع لهم الماء .. وشكروا الله لأنه ليس معهم أطفال ..  
     وبعـد سـير بطىء  أسرع منه المشى على القدم .. وفى جو الحرب والقصف .. فاجأتهم غارة مروعة فخرجوا جميعا من السيارة ، وطاروا على وجوههم يدفنون أجسامهم فى التلال الرملية المحيطة بهم ..
***
     ولمــا فتــح " إسـماعيل " عينيـه وأفـاق من غشيته ، وجــد " أمينة " وحدها هى الباقية من الثمانية ، ولم يعرف أين ذهب الباقون ، غيبتهم الصحراء فى جوفها ، أم مزقتهم القنابل ..
     وشـكرت " أمينة " ربها لأنها وجدت رجلا بجانبها فى الليل والحرب .. وكانت قد استراحت إلى " إسماعيل " منذ ركبت معه السيارة ، استراحت إلى أعصابه الهادئه وجلده .. واشتمت فى ملامحه وطباعه النبالة .. ولم تكن فراستها تخيب أبدا فى نظرتها إلى الرجال ..
     فمنذ بدأت تعمل وتخرج إلى الحياة ، وتنتقل من بلد إلى بلد ، وهى تحمل بين جنبيها ذخيرة تجارب صادقة ..
     ولم تكن وهى الأنثى الشابة الجميلة إلى حد الفتنة .. ترفض البعد عن الأهل فى سبيل العمل والحصول على رزق أوسع .. وكانت بعد " العريش " تتطلع إلى العمل فى الكويت .. وليبيا .. والسعودية لتجمع لأسرتهـا من المال ما يبنى لهم بيتا .. " فيلا " جميلة بدلا من السكن بالإيجار ..
     ولكن أحلامها أوقفتها الحرب عند وجه " إسماعيل " ..
     وتطلع إليها فى غبش الظلمة والصحراء فى لون الرماد ، والطلقات تصفر .. وقال بتؤدة وهو يتألم لما لاقته فى سفرها من عذاب :
      ـ يجب أن نخرج من هذا المكان .. ونسرع ما أمكن .. وكنت أود أن يعطينى الله القوة لحملك . . وما أحسبك ثقيلة الوزن ..
     فقالت ورغم الضنى ابتسمت :
ـ فى حدود ستين كيلو ..
ـ ليس هذا بالصعب .. إنه وزن استطيع حمـله والسير به عشر خطوات .!
    ونظر إلى عينيها على اتساعهما ، تلتمعان فى الظلمة .. وقد هزتها كلماته المداعبة فى هذا الجو ..
     وقال وهو يجلس على الأرض :
     ـ يجـب أن نتخفف من حملنـا لأن المشوار طويل .. وسأبدأ بنفسى ..
     وفتح حقيبته وأخرج حاجات قليلة وضعها فى جيبه .. وألقى بالحقيبة وما بقى فيها فى الرمال وهو يقول :
     ـ انها مطمع للأعراب .. ولا خير فيها ..
     وقالت بعد أن شاهدته يضع مسدسا فى جيبه ..
     ـ أكنت تحمل المسدس .. بعد أن حذرك السائق من التفتيش ..؟
     ـ المسدس حملته من أجلك .. ومن كان يضع يده عليك سأرديه قبل أن يتحرك له أصبع ..
     فانشرحت لقوله وقالت فى رقة :
     ـ ولكنك ستموت بعدها ..
     ـ وما قيمـة الموت للمرء .. بعـد أن يشعر بأنه أدى واجبه كرجل ..
     وقال وهو يشير إلى حقيبتها :
     ـ والآن جاء دورك ..!
     فقالت وهى تفتح الحقيبة ..
     ـ انظر ليس بداخلها سوى أشياء قليلة .. ماتتزين به النساء .. ونقودى وجواهرى ، أما ملابسى كلها فقد تركتها فى البيت .. وليس معى سوى فستانى الذى أرتديه ..
    وتأمل فستانها الوردى ، الذى كان لايزال منسجما على جسمها ، رغم رحلة العذاب . وكانت رشاقتها تنبع من حيوية جسمها . فبعد  التمرغ فى الرمل يبدو كل شىء بعد لحظات بكل جماله الطبيعى .. العينان والشفتان .. كلها تفيض بالحرارة والفتنة ..
     وكانت قد غطت شعرها الأسود المتموج بإيشـارب وخلعـت ساعتها الذهبية .. كما خلعت حذاءها .. وأبقت سلسـلة ذهبية فى عنقها لأن فى نهايتها " المصحف " ..
    وأعطاها جوربه وهو يقول :
     ـ البسى هذا .. وسنسير فى الليل .. وفى بكائر الصباح .. أما فى وهج الشمس فسنتوقف عن السير .. ونحتمى فى أى مكان نراه صالحا .
    ووضعت يدها فى داخـل حقيبتها ، وأخرجـت منها حزمـة من الأوراق المالية وقالت له :
     ـ  ضع هذه النقود فى جيبك ..
     ـ خليها فى مكانها وسأحمل عنك الحقيبة بما فيها .. ولكن ما هذا المبلغ كله .. ؟
     ـ كنت ذاهبة إلى " غزة " لأشترى ثلاجة وتليفزيون ، وأدوات مائدة لأختى ، والحمد لله لو ذهبت ما استطعت العودة ..
     ـ خذى هذا المبلغ احتياطيا للظروف .. فربما طوقونا .. وفصلوا بيننا ..
     ـ معى ثلاثين جنيها ..
     ـ أين .. ؟ !
     واسـتغرب فلم يكن لثوبهـا جيوب .. وأشارت إلى صدرها فى خجل ..
     ـ يا لبراعة النساء ..
     وابتسم والليل تبدو غياهبه فى كل موضع .. وبقيت النجوم وحدها تتلألأ فى السماء بين الدخان ولهب الحرب ..
     وحمل لها الحقيبة وسارا .. وعجب ـ وهو يسير إلى جانبها فى الليل والحرب ـ لما أحس به .. فقد شعر بقـوة لم يشعر بمثلها فى جسمه .. وكانت الريح الخفيفة تحرك الرمال .. ولكن سماء شهر يونية بدت صافية .. كلما خف الدخان ووهج النيران ..
     وشعرا معا بوجود جسم رمادى يتحرك عن يمينهما على مبعدة مائة خطوة لا أكثر ، ثم تبينا أنها سيارة عسكرية للعدو .. وكانت تسير ببطء شديد فى طريق متعرج .. وتتـوقف لتسير .. ولعلـها ترسـل الإشارات .. وأحس "إسماعيل" بالخطر . فأمسك بيد أمينة وجذبها إلى الأرض .. فانبطحت بجانبه فى رملها وترابها .. وهمس فى أذنها .. فكتمت أنفاسها والتصقت بالرمل أكثر وأكثر .. وتخشبا تماما .. ووضع يده على مسدسه .. ثم تركه بعد أن تبين أنها مخاطرة .. فيها من الطيش أكثر مما فيـها من التعقـل .. ومـا ذنب أميـنة فهى إن نجـت من القتـل لن تنجـو من العـار ..
     وأمسك بيدها وضغط وأحس بالحرارة والعرق والتراب والرمل .. أنه ترابه ورمله .. ولن يخوناه أبدا .. وراقب السيارة بعين الصقر حتى ابتلعتها الصحراء فى جوفها ..
     وأنهضها واستأنفا السير ..
     ولم يكن يدرى أهى خائفة ..؟ كما تخاف النساء من الليل والحرب أم لا .. ولكنه كان مستيقنا من أنها شجاعة .. وأنها سريعة الخاطر ومتحركة .. وتبين له هذا من كل الأشياء التى اعترضتهما فى الطريق .
     ولم يكن يسير فى طريق يعرفه ولكنه كان بحسه يتجه إلى القنال بعيدا عن طريق الحرب .. وعن جوف الصحراء حتى لايظل فى التيه ..
     سار على هدى بصيرته مستضيئا بالنجوم .. وسارت بجانبه مطمئنة راضية .. ونسى تعبه وجوعه ، ونسى قدميه وقد أخذتا فى التورم .. ولم يكن يدرى الذى جـرى لقدميها ولكن كانت تتحمـل العذاب فى صمت ..
     وأحس بأن له هدفا وسط هـذه المعمعه ، التى لم يشترك فيها بسلاح .. وهو أن يهون عليها السير ، ويحميها من شر الليل ، وشر الإنسان .
***
   وقبل الفجر بساعتين استراحا بجانب تل .. بعيدا عن كل قدم يمكن أن تتحرك .. ووضع لها الحقيبة تحت رأسـها الذى عصبـته "بإيشـارب" وتمددت على الرمال وهو قريب منها ..
    ولما شعر بأنها نامت ، وأحس ببرد الليل ، خلع سترته وغطاها فى رفق حتى لاتوقظها حركته ..
     ولكنها كانت متيقظة ، وشاعرة براحة النفس واطمئنانها ، لأنها لاتزال حية وفى رفقة رجل أدركت بغريزتها كل ما فى طباعه من نبل وشهامة .. وان لم يحدثها أحد عن ذلك ..
     وكانت تلاحظه بعينيها وهو على مبعدة خطوتين منها .. وتخاف عليه من حشرات الصحراء فى الليل ..
نسيت أنها فى حرب .. وما يأتى ساقطا من السماء هو شر من كل حشرات الأرض .. ولاحظت أنه لم يدخن حتى فى النهار وضوء السيجارة لايضير فى هذه الساعة ولا يكون دليلا للأعداء .. حرم نفسه من هذه المتعة لأجلها حتى لايضـايقها برائحة الدخان .. ويثير أعصابها وهى جائعة تعبة ..
    كان قميصة قد اتسخ ، وتهدلت بدلته وعلق بها العرق والغبار .. وطال شعر ذقنه وبدا خشنا وعلا الشحوب وجهه .. واتسعت عيناه من الارهاق والجوع ..
      كانت الصورة فى مجموعها تثير الشجن ولكنها شاقتها .. كانا فى حالة عذاب مشتركة وقد سرح بها خيالها حتى جعلها تتصور .. أنه سار فى هذا الطريق الشاق من أجل أن يحميها .. ولو كان وحده لسهل عليه الأمر .. ونجا ..
     وفتح عينيه وهى تمشط شعرها ، ورأى حبات الرمال فى لون الزمرد عالقة بثوبها .. كأنها تطريز جديد عمل فيه بدقة .. فعجب للطبيعة التى تزيد من جمالها فى كل ما تفعله بها .
     وقالت بعذوبة ..
     ـ ألا تحلق ذقنك ؟
     وضحك لمداعبتها وقال :
     ـ وينقصنا الحمام أيضا .. ومرآة زينة كبيرة لك وكل العطور الجميلة التى فى العالم .. والآن هيا .. مع الجوع والعطش ..
***
    ومشيا بعدطلوع الشمس على مهل ، كانا ينـزعان أقدامهما من الأرض بمشقة .. واشتد بهما الجوع وبلغ العطش مبلغه .. فظهر الشحوب على وجهيهما ، وابيضت الشـفاه وتشـققت .. وترددت الأنفاس بصعوبة .. ولكنهما كانا من الشجاعة بحيث لم يتطرق إلى قلبيهما اليأس ..
      ومشيا أقل من مائة خطوة ، ثم ارتميـا على الأرض كميتين ، وأغلقا عيونهما من الشمس وأخذ هو يتشهد فى سره ..
***
     وتحرك "إسمـاعيل" بعد سـاعة وفتح عينيه وشاهد على مرمى البصر .. وفى وهج الرمال المصفرة من الشمس خيطا من الدخان يتصـاعد من ظهر كوخ .. فنبه "أمينة" إلى ما شاهده وهو يشعر بالفرح .. فقد وجد خيطا من الأمل وسط ظلام اليأس .. والجوع القاتل .. وجعلها تستريح فى مكانها ..
     واتجه هو نحو الكوخ محاذرا منهوكا ، ولما اقترب تصلبت رجلاه ويده على المسدس .. كانت تحدق فيه من فتحة الكوخ عينا رجل .. وجه نحيل خشن وحاجباه كثيفان ، وعيناه فيهما صرامة وتحد ..
     وأظهر إسماعيل كل ضروب الوداعة واللطف .. وهو يقترب من الرجل ويقف على بابه .. ويطلب منه الماء والطعام .. واعتذر الرجل بأن الدار خاوية منذ الأمس ، فلا توجد كسرة خبز ولا قطرة ماء .. عندهم .. ولم ييأس " إسماعيل " وظل يحـاور الرجل ثم أخرج له ورقة بخمسة جنيهات ليغريه ، فتغير حال الرجل على التو .. ودخل وعاد يحمل خبزا ولبنا .. ناولهما لإسماعيل ..
     وحمل إسماعيل الخبز واللبن فى ركوة ومنديل ولكن قبل أن يبعد عن الكوخ سمع المرأة فى داخـل الكوخ تشتم زوجها وتوجعه بالكلام وتوبخه ، لأنه أخذ ثمنا لإطعام جائع غريب .. وظلت تصب عليه اللعنة بصوت جارح .. ثم جذبت الورقة ذات الجنيهات الخمسة منه ، وخرجت تجرى ، وأعادتها لإسماعيل ، وهى تعتذر عن جشع زوجها .. وسرته هذه الشهامة من الاعرابية .. وحكى كل شىء لأمينة وهما يجلسان للطعام .. وكان يردد :
     ـ تأملى الحياة .. الخير .. والشر .. فى بيت واحد ..
     وبعد أن أكلا وشبعا .. لم يستطيعا مواصلة السير إلا قليلا .. جعلهما الشبع بعد الجوع القاتل فى حاجة شديدة إلى النوم .. فناما فى فجوة منخفضة ..    
     واستيقظ إسمـاعيل " وأمينة " نائمة بجواره وتكاد تكون ملاصقة له .. وقد جعله الطعام الذى أجرى الدم فى عروقه وغير من حاله .. ينظر إليها لأول مرة كما ينظر الرجل إلى المرأة .. ويشتهيها ..
      وكانت نائمة مستسلمة ، وما تكشف من جسمها ، رغم ما علق به بسبب الطريق كان لايزال يثيره ولو اقترب منها ما منعته .. ولا رفضت له رغبة .. ولقد لفتهما الحرب فى إعصارها والموت يترصد لهما فى كل خطوة .. فلماذا يحرم نفسه من متعة الدنيا ، وحياته مهددة بالموت فى كل لحظة ..
      وهم بأن يقترب منها ولكنه أحس بمثل الاعصار .. يشق عينيه .. فظل جالسا مدة فى مكانه ساهما سادرا .. ثم رجع إلى نفسه يلومها على ما انتابه من هواجس وأدرك أنها كانت تحتقره لو فعل بها شيئا .. تحتقره كرجل ، لأنه استغل ظروف المكان ، وخان الأمانة التى جعلتها تضع نفسها ومالها وجواهرها فى حماه ..
     ولما استيقظت من نومها .. ابتسم لها وأمسك بها من يدها واتجها إلى القنال .. وفاجأتهما غارة عنيفة وهما على مداخل القناة .. وغاب إسماعيل عن وعيه ..    
     ولما أفاق أحس بأثر الضربة فى صدغه .. ولا يدرى أكانت من شظية أم من الحصى المتطاير من فعل القنبلة .. وسال منه الدم ولكنه تحامل على نفسه ونهض وأخذ يبحث عنها كالمجنون ..
     وبعد طول البحث لم يعثر عليها . وأدركه اليأس ، وبلغ منه التعب منتهاه ، فارتمى على حافة القناة وكأنه يموت ..
***
     ومضت سـاعات وهو مضطجع بجانب التل يتابع بعينيه موج البحر .. وكان شهاب من نار ودخان يتفجر فى الصحراء ..
     وظل " إسماعيل " الليل بطوله يسمع الدوى ، ويرقب البحر ، وهو فى أشد حالات الحزن لفراق " أمينة " وقد نهش قلبه القلق عليها ولفه فى إعصار ..
     ورأى فى مواجهته زورقا يقترب من شط القناة بحذر .. فنهض فى تثاقل وتعب وأخذ يتجه إليه ، ولمحه الصياد وهو يسير على الشاطىء .. فحرك الزورق ليقترب منه ..
     وقال له إسماعيل :
     ـ تعدينى القناة يا ريس ..؟
     ـ أعديك .. ولكن انت شايف الحال ..
     ـ أى حال ..؟
     ـ اليهود فى كل مكان .. فى الشمال والجنوب وطائراتهم تدك .. والتعدية مخاطرة .. وثمنها غال ..
     ـ أنا مستعد لما تطلب ..
     ـ أعتدت أن آخذ مائة جنيه .. ولكن لأجل خاطرك سآخذ خمسين فقط ..
     ـ لماذا تستغل الظروف يا ريس .. عيب .. تكفى عشرة ..
     ـ قلت خمسين يعنى خمسين ..
     ـ هذا كثير ..
     ـ أنت حر ..
     وحرك المجاديف ليبتعد بالزورق ، فارتعد إسماعيل بعـد أن أدرك أنه سيدفن فى فيافى هذا المكان كما دفن غيره ، وقال فى ضراعة ..
     ـ سأدفع لك ما تريد ..
     ـ النقود أولا ..
     فأخرج إسماعيل المبلغ من الحقيبة وأخذ يعد له الخمسـين جنيها والصياد يحدق فى محتويات الحقيبة ..
      ونزل إسماعيل فى الزورق وشد الصياد المجاديف ..              واضطجع إسماعيـل فى باطن الزورق من الخـلف ، وهو يحس بتعب شديد فى عظامه ولحمه .. كانت الأوجاع قد أخذت تتوزع على جسمه كله .. ورأسه ينفجر من أشد أنواع الصداع .. فوضع رأسه على الخشب الصلب ليفلقه نصفين ويستريح .. ! وظل نائما على جنبه وظهره إلى الصياد الذى كان يجدف فى حذر وسكون ، وتكاد مجـاديفه لا تمس الماء ولا يسمع لها صوت ..
      ولامست يد إسماعيل بالمصادفة معدنا صلبا صغير الحجم وهو يدس يده بين فتحات الخشب فى باطن الزورق .. وجعله حب الاستطلاع يمرسه بين أصابعه .. حتى تبين أنه سلسلة ناعمة خارجة من فتحة فى صندوق ، غيبه الصياد فى باطن الزورق .. وحدق إسماعيل فى الظلام بين شقوق الخشب فلـم يتبين نوع السلسلة .. فحول وجهه إلى الصياد وسأله :
     ـ أمعك ثقاب " يا ريس " ..؟
     ـ لماذا ..؟
     ـ أشعل سيجارة ..
     ـ السيجارة تضيعنا .. اننا فى حرب ..
     فأذعن إسماعيل للأمر .. وصرف ذهنه عن السلسلة والصندوق بعد أن أدرك أن الصندوق موجود غالبا فى كثير من الزوارق التى تبقى فى البحر ..
     وسأل وهو يتطلع إلى وجه الصياد الجامد وكان يراه طويلا مستقيم العود .. رغم أنه يزاول التجديف كثيرا ويحنى جذعه ..
     ـ عديت ناس كتير يا ريس ..؟
     ـ كتير .. من يومين وأنا أعدى خلق ..
     ـ وتحت أى بلد نحن الآن الإسماعيلية أم السويس ..
     ـ اننا فى الخليج قريبا من السويس .. ولو كنا تحتها كنا ضعنا من زمان ..
     ـ ألم تعدى سيدات ..؟
     وحدق إسماعيل فى وجه الصياد وهو يلقى عليه هذا السؤال فرآه جامدا لم يتغير ..
     ـ سيدات فى هذه الأهوال .. أبدا ..
     كان صوته هادئا وواضحا ..
     ـ بقى كتير على البر ..
     ـ اننى أحاول أن أبعدك عن المخـاطر .. ولذلك تحس بطول المسافة .. قربنا .. أمامنا القليل ..
     ـ سأنام وعندما نصل أيقظنى ..
     ـ حاضر ..
     ومضى زمن ..
     وأغلق إسماعيل عينيه بضعة دقائق واسترخى .. وأحس بتوقف المجاديف .. فتصور أن الزورق وصل إلى الشاطىء .. وفتح عينيه فإذا بالزورق لايزال فى وسط الماء .. ولمح فى يد الصياد شيئا غريبا .. مسدسا كبيرا من طراز إيطالى قديم .. وكان يعده للحركة الأخيرة .. ضغط الزناد .. وقد انشغل به .. فتأمله إسماعيل فى صمت وتوجس من الرجل شــرا .. مسـدس كهذا فى يده لماذا ؟ .. إنه لا ينفع فى الحرب ..  
     وأحس بالخوف وبالعرق على جبينه وبازدياد ضربات قلبه ..
     ولكنه تمالك نفسه سريعا ووضع يده على مسدسه وأصبعه على الزناد .. وأخرجه من جيبه ، وفى اللحظة التى كان فيها الصـياد يمد يده ويصوب إلى رأس إسماعيل وهو نائم ، تحرك إسماعيل سريعا وأطلق النار .
     وضاعت الطلقتان فى دوى المدافع ووهج النيران ..
***
     وأحس إسماعيل بالدم يلطخ ثيابه ، وأدرك أن الرصاصة أصابت كتفه وخرجت من جسمه واستقرت فى قاع الزورق ..   وحدق فى وجه الصياد وجس نبضه فتبين له أنه مات ..
     وظل يبحث فى بطن الزورق حتى وجد قطعة حديد رفع بها قطعة الخشب التى تغطى الصندوق .. وكسر القفل وفتح الصندوق .. فوجـده ممتلئا بالنقود والحلى ووجد سلسلة " أمينة " الذهبية ومصحفها ، فارتجف قلبه وارتعد ، وكان الزورق ساكنا فى وسط الماء ، فتناول إسمـاعيل المجدافين .. وأخـذ يجـدف طوال اللـيل متجها إلى " بور توفيق " ..
     أدرك وهو ينظر إلى الشواطىء البعيدة أن الصياد كان يغرر به ويتجه إلى الجنوب ..
      ولما بلغ شاطىء " بور توفيق " ترك المجدافين وحمل فى يده حقيبة " أمينة " وكل الجواهر والنقود التى وجدها فى الصندوق ، وخرج من الزورق بعد أن دفعه برجله إلى عرض الماء ..
***
      وعندما صعد إلى شارع القناة ، كان الظلام لا يزال يخيم ، والمدينة ساكنة ، بعد أن توقف الضرب ووجد أمينة جالسة تحـت الشـجر وحدها تنتظره ، وكانت حزينة وجائعة ونعسانة ..
    ولما رأته استردت روحها وجرت إليه وارتمت على صدره ..
 ====================================
 نشرت القصة بمجلة الهلال بالعدد 9 فى 9|9|1972 واعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980 وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
============================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق