الجمعة، 17 أبريل 2015



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان




     

الحارس


     غادرنا " منفلوط " فى اليوم التاسع من اكتوبر فى جــو مشحـون بالحــرب فى كل مكان . وكانت الأنوار منطفئة فى المحطة ، وفى المدينة ، ولكن القمر كان طالعا ونوره يفرش على البيوت والمزارع وبساتين النخيل .
     وكانت الريح رخاء ، والليل صحوا ، والرؤية واضحة إلى المدى البعيد ، ورغم الاظلام فى المحطة ، وفى البيوت ، ولكنا لم نسمع صوت قذائف على الاطلاق .
     وكان الناس يقومون بأعمالهم العادية فى هدوء كأن الحرب لم تشتعل منذ ثلاثة أيام ، ولكن الفرحة كانت بادية على الوجوه ، وفى سلوك الأفراد وتعاملهم ، فقد هزتهم موجة الانتصار وأطلقت العنان لمشاعرهم المحبوسة .
     وكضابط أمن فى المنطقة فإنى أقرر أنه لم تقع منذ ثلاثة أيام حادثة واحدة سجلها دفتر الأحوال فى المركز .. سوى حادثة سقوط " لينا عازر " بين المزارع .. رفيقتى فى هذا السفر الليلى .. فى العربة الخلفية من قطار الركاب رقم 777 ، فقد فاتنا الاكسبريس لخطىء فى التقدير . فكان لابد من السفر فى الليل ، فى مكان منفرد ، وبعيدا عن الركاب .. ووقع الاختيار على ديوان صغير مخصص للسيدات .. ويحتوى على كنبة جلدية واحدة ، ويقع فى نهاية صف الدواوين فى آخر عربة فى القطار .
     وكانت العربة بأجمل صفاتها متهالكة ، ومفصلاتها تزعق ، وزجاج نوافذها نصف مكسور .. وعجلاتها تدوى على القضبان كالطاحون القديمة ..
     ولكن الديوان الصغير الذى أجلست فيه " لينا " كان بابه صالحـا للعمـل .. والزجاج فى النافذة والباب كانا سليمين .
     وكحارس لاتفوته ثغرة أخذت على ضوء القمر ، وضوء البطارية التى معى ، أدور بعينى فى هذا الجزء الخلفى من العربة بعد أن أودعت " لينا " فى داخل الديوان .. وشعرت بالراحة لأنى سأستريح من فضول الناس ، إذ لم يكن فى الدواوين الملاصقة لنا مباشرة ركاب على الاطلاق .. وكان وجودهم سيسبب لى مضايقات كثيرة ، لأن " لينا " لاتزال بملابسها العسكرية التى سقطت بها ..
     وكنت قد أنزلت خشب النافذة عندما كان القطار واقفا فى المحطة ، فلما تحرك خالفت التعليمات ورفعته لأن الاظلام كان تاما فى القطار كله .. ورأيت ألا نختنق فى هذا الظلام وأن أدخل قليلا من ضـوء القمر من خلال الزجاج .. لأراقب الأسيرة وأراها وترانى ..
     وأخذت أتطلع فى الضوء الطبيعى إلى وجهها ، وكانت قد شربت دموعها واستفاقت من الفزع الذى أعقب السقوط .. واطمأنت على حياتها ، وعلى وجودها معى كحارس لها .. فقد عاملتها بالحسنى من أول لحظة .. ومنعت عنها سباب النساء ، ولعنة جنسها ، وغضب الجموع التى أحاطت بها ..
     فإن شخصا يسقط فى المزارع وبين الفلاحين بعد أن كان يحلق ليرميهم بقنابل الدمار له فى نظرهم حكم واحد .. الموت .. وقد نجيتها من الموت .. وبسرعة نقلناها من المركز إلى القطار ،  وأصبحـت مسـؤلا عنهـا وحدى حتى أصل بها إلى المكان المعين لنا . وحدث كل شىء بسرعة رهيـبة حتى أننى لم استرد أنفاسى .
     وكنت فى أشد حـالات التعب إذ لم أنم منذ يومين ، وخشيت أن يغلبنى النعاس فتهرب ، كنت فى خوف موصول من حدوث ذلك .. ولهذا أخذت أفتح عينى جيدا .. وشعرت بأنى فى حاجة شديدة إلى فنجان من القهوة أو الشاى ، ولكن ساءنى أن القطار ليس به مقصف ثابت ولا متنقل كما نشاهد فى القطارات الأخرى .
     وكانت " لينا " بجانبى من الداخل ، وكنت أرى جانب جيدها .. ورأسها المنحنى المستدير قليلا إلى النافذة ، وتبدو صامتة وحزينة ، ولا يبدو عليها التفكير فيما يدور بخلدى .
     ولكن من الذى يستطيع أن يتبين من ملامح المرأة ماتبطن من خفايا نفسها ..
     كانت ترتدى ثوبا أخضر من الكتان ويبدو ضاغطا فوق وركيها وبروز صدرها ..
        ورجعت إليها انوثتها ، فأخذت تسوى شعرها ، وتصـلح من ردائها العسكرى .. فعندما هوت وجرت لما طاردها الفلاحون تعثرت وسقطت على الأرض بين الزراعات المروية فاتسخت حلتها ، وعلق بها التراب والطين .. فخلعت سترتها وأخذت تنظفها .. وبدا لحمهـا من تحـت القميـص الأخضـر متسخا كأن به آثارجرح ..
     فسألتها :
     ـ هل بجسمك رضوض ..؟
     ـ أبدا .. التوى قدمى قليلا وأنا ساقطة ..
     ـ سنعالج هذا عندما نصل ..
     ـ نصل إلى أين ..؟
     ـ نصـل إلى مدينـة جميـلة .. وستجدين رفاقك هناك فى انتظارك ..
     وبدا عليها السهوم .. ولعلها تذكرت ما فعلوه هم بالأسرى المصريين فى الحرب الماضية .
     وسألتها :
     ـ أى مدينة فى مصر كنت تودين تدميرها ..؟
     فشحب وجهها :
     ـ لم نخرج لندمر .. كانت طائراتنا استطلاعية ..
     ـ لماذا سقطت ..؟
     ـ أصيبت بقذيفة ..
     ـ هل ولدت فى إسرائيل ..؟
     ـ ولدت فى رومانيا ..
      شاهدت فى مجلة أجنبية منذ اسبوع فقط صورة لأسرة رومانية تجلس فى حديقة بين الورود والرياحين ، أسرة وديعة مسالمة .. فلماذا تختلفون أنتم عن جميع أجناس البشر وتريدون تخريب العالم ..
      ـ لقد قلت أن الطائرة استطلاعية وأنا لم أسبب الضرر لأحد ..
     ـ بعد طائرة الاستطلاع .. تأتى طائرة القنابل ..
     ـ انها الحرب ..
     ـ أجل انها الحرب .. ولا سلام فى هذه الأرض مادمتم تشنون الحروب على ظهرها .. هذا هو رأيى ..    
      كان الحرز الذى وضعنا فيه أشياءها لا يزال بجـانبى فألصقـته بالمسند واتكأت عليه .. وابتـعدت عنها حتى أصبحت قريبا من باب الديوان لأفسح لها مكانا لتنام ..
      وقلت لها :
     ـ نامى ساعة أو ساعتين .. فالرحلة طويلة ..
     ـ إنى جائعة .. ولا أستطيع النوم وأنا جائعة ..
      ورأيت أن أشترى لها طعاما فى المحطة التالية ، أو فى "ديروط"  ..
      وأخذ هواء الليل يترطب ، ومع سرعة القطار .. اشتد مرور الهواء ، فبدأت الأتربة تتطاير فى وجهينا كلما دخلنا فى المحطات الصغيرة .. فأغلقت زجاج النافذة ..
      اقتربنا من " القوصية " .. وفكرت أن أجد فيها طعاما .. واشتريت الطعام الذى يكفينا .
       ولما تحرك القطار سألتنى وهى تأكل :
     ـ من الذى علمك العبرية .. بهذه الطلاقة ..؟
     ـ كنت أسكن فى حارة عندنا اسمها حارة اليهود ..!
      وافترت شفتاها عن ابتسامة باهتة ..
     ولأول مرة أرى ابتسامة على وجهها ..
     ـ ولهذا وقع عليك الاختيار لترافقنى ..؟
     ـ أجل .. فقد كان هذا من سوء حظى ..
     ـ لماذا .. اننى لم أسبب لك أية متاعب ..؟
     ـ لقد طلبونى على عجل وأنا مريض .. ولم أذق للنوم طعما منذ يومين .. وقد أكون محموما ..
     ـ لماذا لاتستريح الآن وتأخذ كفايتك من النوم ..
     ورفعت بصرى إليها ولم أعقب ..
         وتكورت هى بجانبى بعد أن تعشت ، واضعة رجليها تحت فخذيها .. وأغمضت عينيها .. وإن كنت على يقين بأنها تنام بإحدى عينيها فقط ، وتظل الثانية مفتوحة .. !
     وفى محطة " ديروط " ناولتها زجاجة من العصير ، وكنت أود أن أشرب القهوة .. ولكنى لم أجدها فى داخل المحطة ..
     وكان السكون شاملا ، والظلام تاما ، وحالة الحرب بادية هنا بالدرجة القصوى ، وكانت ترعة الابراهيمية على شمالنا .. تبدو مياهها هادئة .. وعلى الأفق الغربى كان القمر يلتهب وكان لون أخضر يضرب إلى السواد يغطى المزارع ، أما المدينة فكانت محتجبة فى الظلمة وساكنة ..  
     وساعدنا السكون الشامل على أن نسمع صوت الراديو ، وكان يذيع انتصارات الجيش المصرى على طول جبهة سيناء .
      وقرأت "لينا" الانتصار على وجهى فامتعضت وبدا عليها الذبول لقد أطلق الراديو مشاعر كانت فى عـداء صريح مع عقلها وتفكيرها .
      كانت تتوقع انتصار جيشهم ولم تكن تتوقع هزيمة كهذه أبدا وأصيبت بخيبة أمل مرة .. وغدت سحنتها مخيفة ، ضاعت منها كل علائم الأنثى . وخفضت رأسها وراحت تنظر إلى أرضية العربة .. وجعلنى هذا أراقبها بحذر ولا تغفل عينى عنها لحظة .
     وخطر فى ذهنى خاطر .. أن أحـدا من رجـال الأمن لم يفتشها فى المركز .. واستدعى لتفتيشها مدرسة فى المنطقة .. فتشـتها فى غرفة مغلقة .. ولكن هل فتشتها هذه المدرسة كما يجب ..
        ونظرت إليها وكانت لاتزال متجهمة وقلت بهدوء :
     ـ قفى ..
     ـ لماذا ..؟
     ـ أريد تفتيشك ..
     وارتعش بدنها ..
     ـ لقـد فتشـت فى المركـز .. والأشيـاء كلها معك فى الحرز ..
     ـ ولكنى سأفتشك مرة أخرى ..
     ـ تفضل ..
      ووقفت وفتشتها بدقة متناهية ، وهى تنظر إلىّ بدلال ..
        وعجبت وأنا أضع يدى على لحمها من كونى لم أشعر بأية عاطفة نحوها .. وهى رشيقة الجسم وتعد جميلة فى النساء .. كانت تقاطيع جسدها بارزة من خلال القماش الكتانى المشدود ، وكانت يداى تتحركان على تمثال من الشمع الجامد .. وربما كانت تتصور أننى أتلذذ من هذه الحركة لأنى فتشت الجيوب وقلبتها .. ولمست صدرها وفخذيها ، تحـت القميص وفوقه ، ربما كانت تتصور أن فى الأمر متـعة لأنها طالـت .. ولكن إحساسى كرجل كان يغطيه دخان الحرب ويغلفه ، وكنت جامدا وأى ضعف من جانبى معناه ضياعى كرجل ..
     وكانت هذه اللحظة هى سلاحها الوحيد الذى تحمله ضدى .. فلما رأت جمودى .. تحولت سحنتها فجأة من دلال الأنثى الناعم إلى سحنة نمرة .
     وعادت وقد غلب عليها الارتباك والهزيمة معا فجلست ثم تكورت فى مكانها .. وبعد منتصف الليل وفى الساعات التى اعتاد أن ينام فيها الناس بقيت مستيقظا ، وفى أشد حالات الانتباه واليقظة وأصبحت أغالب النوم بصعوبة بالغة .. فقد كنت فى أشد حالات التعب والارهاق البدنى وأفتح عينى بصعوبة .. وأحدق بجانب دائما .. وأظل جالسا فى خط مستقيم .. لأنى اذا اضطجعت إلى الوراء سيغلبنى النعاس ، كان شعورى بالمسؤلية الضخمة مضاعفا .. ورغم الجهد النفسى الذى بذلته .. ولكن النعاس كان يغلبنى على فترات قصيرة جدا وأنا جالس وكنت أفتح عينى بقسوة بعد كل غفوة .. وأتلفت فأراها مكانها .. فأطمئن ..
     ولكنى أعود للنوم .. وأحلم .. بأنها نزلت من القطار .. وتخطت القضبان وهربت وقدمت للمحاكمة ، وحكم على بالسجن ، ويحدث كل هذا سريعا .. ولكن بوضوح .. فى شريط الرؤية الذى يدور .. وصرخت .. وفتحت عينى فوجدتها واقفة .. تتطلع إلى النافذة ..
     وقالت بلهجة حزينة .. لما وجدتنى أرفع رأسى :
     ـ أريد أن أذهب إلى دورة المياه ..
        وفتحت باب الديوان ، ودفعتها أمـامى إلى الخـلف فى الضـوء الشاحب والقطار يجرى .. وكانت دورة المياه ملاصقة لنا تمامـا فلم تتحرك أكثر من خطوتين فى هذا الظلام ..
     وفتحت لها الباب ودخلت ، وقلت لها بصوت آمر :
     ـ  دعى الباب نصف مفتوح ..
        فلم ترد .. وتركت الباب نصف مفتوح .. ووقفت نصف دقيقة فى الظلام ، أصارع رغبات لا قبل لمثلى بها .. ثم حركت الأكرة وأغلقت عليها الباب ..
   ووقفت أنضح عرقا .. ربما انتحرت أو القت بنفسها من النافذة فماذا يكون مصيرى .. وطال مكوثها بالداخل .. وأنا فى الخارج فى صراع ورعب ، ثم خرجت فوجدتنى على الباب فحدقت فى وجهى فى الظلام ، ثم مضت لا تلوى على شىء .. وجلست فى مكانها وقد مدت ساقيها والصقت ظهرها بالكنبة .. وتفرست فى وجهها الحزين وكل كيانها المرتجف .. كانت خائرة القوى .. أتخاف من المجهول .. بعد أن ضاعت الأحلام .. وأصبحت تواجه الحقيقة المرة .. واسترخيت مثلها .. وأحسست دون أن أنظر من نافذة القطار .. أننا تجاوزنا محطة المنيا .. وسمالوط .. وبنى مزار .. وأننا نقترب من " مغاغة " فأنا أعرف جو هذه المحطات دون أن أقرأ أسماءها .. من كثرة أسفارى ..
      وتوقف القطار على محطة صغيرة وطال وقوفه .. وكان الظلام يغطى كل ما حولنا والسكون شاملا ، ونباح الكلاب هـو الشىء الوحيد فى هذه البقعة الذى يدل على وجود الحياة .
***
     وأحسست بالقطار وهو يسير .. وملت عليـها فوجـدت جلستها غير مريحة فعدلت وضع رجليها ، وكانت مستغرقة فى النوم ، فألقيت بجسمى إلى الوراء .. وأصبح دوى العجلات الرتيب .. كأنه   نغم الأحلام ..
     ولا أدرى أنمت أم كنت صاحيا .. فإن الفترة فى تقديرى لم تكن تتجاوز دقيقة واحدة .. فقد فتحت عينى على حركة وقوف القطار فلم أجدها فى مكانها ..
      وارتعدت وقد مستنى فجأة حالة رعب قاتل .. ولكنى لم أفقد عقلى .. وتحسست بيدى الحرز فألفيته فى مكانه ، فتناولته بسرعة واندفعت من الباب ، وكانت هى قد تركتـه مفتوحا خشـية أن حركـة إغلاقه ستوقظنى ..
     وفى المحطة الصغيرة لمحتها وهى تجرى وتتخطى القضبان مسرعة فى اتجاه المزارع ..
     وأخذت أجرى وراءها .. وقد تركز العالم كله فى بصرى على ردائها العسكرى ..
      كانت تجـرى بأقصى سرعتـها فى طريق زراعى مترب بجانب زراعات البرسيم والخضر وفهمت قصدها فقد لمحت حقل ذرة .. وكان فى نظرها نعم المكان للاختفاء .
      وجـرت واندفعت إلى الحقل وغابت عن بصرى وأخفاها الحقل والظلام معا ..
***
     ويصعب على أن أصف إحساساتى فى تلك اللحظة ، فالشعور الذى انتـابنى إذ ذاك لا يمكن وصـفه . لا يمكن تسميـته بالخـوف ولا بالقلق ولا بالعار على ضابط مصرى هربت منه فتاة إسرائيلية ، هربت منه أسيرة وهو مسلح وهى عزلاء .. لابد أنها أسرته بمفاتنها فى الليل والظلام والوحدة فضعف واستسلم لها واستجاب لرغبتها .. وأطلقها تعيث فى الأرض فسادا ، أطلق جاسوسة تتجسس فى البلاد ونحن فى حالة حرب .
     والمحاكمة العسكرية .. والسجن والعار .. دارت كل هذه الخواطر فى رأسى .. وأنا أقف على رأس الغيط .. مسمرا ملتاعا .. واجهت ظاهرة غريبة وأصبح الزمان والمكان لاوجود لهما بالنسبة لى ..
     كان معى جهاز إرسال لاسلكى ، ولكننى لم استعمله ولم أطلب الاستعانة ولا النجدة .. خشية الفضيحة .
     ووقفت وحدى كأنما أنا فى الدنيا بأجمعها الذى يواجه وحده تحدى القدر ..
      ودخلت الحقـل أتخطى " الحوض " والمجراة .. إلى أين تمضى هذه الملعونة فى العتمة ..
     ولم أوغل كثيرا .. ورفعت المسدس وأطلقت ثلاث طلقات إلى أعلى وطلقة إلى مستوى رأسى وسمعت بعد هذا صرخة .. وصوتها وهى تطلب منى بالعبرية أن أكف عن اطلاق النار ..
     ووجدتها مبطوحة على بطنها فى قناة جافة وواضعة ذراعيها ويديها على رأسها ..
      وأوثقت يديها من الخلف .. وخرجت بها .
      كان القمر قد غاب منذ قليل وراء أشجار النخيل العالية وباتت القرية غارقة فى عتمة رمادية شهباء .. وليس غير رؤوس الأشجار بادية فى الظلمة ..
     ونسيت القطار .. وخيل إلىّ أنه قد مر على مجيئى إلى هذا المكان دهر كامل .
     وتطلعت إلى النجوم .. وهى تسير أمامى .. وتخطينا مرتفعات السباخ التى تجاور الحقول وأصبحنا نسير فى حذاء الترعة إلى المحطة .
***
     كانت نحيلة بادية الطول شاحبة اللون تمشى بخطوات مترنحة من فرط التعب .. ورأسها الصغير يتمايل على عنق طويلة يغطيها من الخلف شعر أشقر مرسل قد تلطخ من عناء الطريق .. وعيناها تحدقان فى وجهى دوما بنظرة فائضة بالحقد .

     وفى المحطة الصغيرة فككت وثاقها وانفجرت تعول بالبكاء .. وقد تكورت ووضعت ذراعيها حول فخذيها .. وتطلعت بعينيها إلى القضبان .. فى حزن واستسلام ..                  
     ولقد أدركت بجـلاء ، وأنا أحدق فى هذا الكائن ، أن هناك من يمتص الحياة من هذا الجسد البشرى ..
      أخذت أتفرس فى ملامحها دون حركة وأنا واقع تحت وطأة المشاعر التى كانت تفيض بها نفسى .. وأدركت فى تلك اللحظة الكثير مما تفعله إسرائيل برجالها ونسائها ، فهذه التى ولدت لتكون زوجـة أو مدرسـة أو طبيبة أو عاملة نافعة لجنسها .. حولوها إلى شيطانة للدمار".
     كانت المشاهد التى حولى كلها ساكنة .. القرية .. والمحطة .. والبساتين المزهرة .
     وكنت أرى قلوع المراكب فى النهر تبدو وأشرعتها من بعيد فى الظلمة كالأعلام وتسير فى طريقها فى سلام دون احساس بالحرب .
     أما الترعة عن يسارى فكانت ساكنة تماما .. فلا حركة فيها تدل على الحياة ..
     وفى الجهة الأمامية من المحطة الصغيرة يجلس الغضب والحب يتصارعان حب الحياة .. وغضب الثأر ..
     ورأيت فى وجهها أطفال مدرسة بحر البقر .. وعمال أبو زعبل .. وسكان بور سعيد .. والإسماعيلية .. والسويس الآمنين فى بيوتهم ، كل هؤلاء كانوا مدنيين عزل .. لم يطلقوا رصـاصة ولم يصوبوا مدفعا فى صدر أحد .. كانوا يعيشون فى سلام للحياة .. فقصفوا أعمارهم بقنابل الدمار .. إن الحقد يعشعش ويبيض فى قلوبهم ..
     كانت أمامى بكل حقدها وما فى نفسها من خساسة .. ولكن ماذا أفعل وأنا الرجل المسلح أمام امرأة قد جردتها من السلاح ..
     وسمعت صفير القطار من بعيد .. وأخذت أستعد لجولة أخرى معها فى هذا الليل الساكن ..



=================================
نشرت القصة بمجلة الهلال بالعدد 1 فى يناير 1974 وأعيد نشرها فى كتاب " الظرف المغلق " سنة 1980 وفى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
=========================================

الإبن الضال

   قصدت بيت الرسام " سيرجى " فى أول يوم هبطت فيه مدينة " تفليس " وقد بهرتنى المدينة بمعالمها التاريخية وآثارها الغربية ، فهنا عاش العرب بحضارتهم العظيمة 300 سنة ..
     وانشرح صدرى من فيض الذكريات الحلوة وأنا أصعد التلال إلى المسجد ، والثلج يتساقط ، والبرودة شديدة ، رغم الشمس الساطعة ، والنهار الخالى من الغيوم ..
وفى البيوت الصغيرة المجاورة للمسجد ، جلست أشرب الشاى وأتحدث مع من لقيت من المسلمين ، وخرجت معى " عائشة " لتدلنى على بيت الرسام ..
وبدأنا نصعد فى التلال و" عائشة " بجوارى وقد غمرها سيل متدفق من النشاط والمرح ليس لهما من ضريب .. فأخذت وسط الثلوج تندفع فى مشيتها كأنها تمشى على بساط من الحرير .. أما أنا فكنت أتعثر وأمسك بيدها وأعوق حركتها وأميل الى الجانب المجروف من الطريق ..
ولما أصبحنا بحذاء صف من البيوت القديمة بشرفاتها الخشبية ، ونوافذها الصغيرة ، وأسقفها الواطئة ، تصورت أننى أسير فى حى خان الخليلى بالقاهرة ..
وحدثت " عائشة " بهذا فأبهجتها المقارنة  وظهر ذلك بوضوح على قسمات وجهها الحلوة .. وكان خداها قد توردا من الصقيع وأنفها الصغير قد أحمر جدا .. ولكن شفتيها ظلتا حمراوين يتدفق منهما دم الشباب وحرارته .. كما ظلت عيناها البريئتان المعبرتان تبرقان وتضحكان كلما حدثتها بخواطرى ..
وفتح لنا الرسام العجوز الباب .. وجلسنا متجاورين فى الصالة .. وأمامنا طاولة زرقاء صفت عليها أكداس المجلدات الفنية .. وحدثته " عائشة " بغرضنا من الزيارة ..
فظهر على وجهه الانشراح وأخذ يقص علينا وهو فخور كيف عثر على هذه اللوحة النادرة أثناء تجواله وضمها إلى لوحاته ..
وكانت " عائشة " تترجم كل فقرة من حديثه بصوتها الواضح النبرات .. وجرسها الحلو .. فى طلاقه وعذوبة ..
وجاءت زوجة الرسام تحمل لنا الشاى والفطائر .. وقدمها الزوج وهو فائض بالبشر على أنها رفيقة حياته وتعبه .. وكانت نحيفة قصيرة القامة حادة النظر .. تقترب من السبعين أو جاوزتها ولكنها تتحرك فى نشاط عجيب ..
وقالت لزوجها فى عتاب :
ـ لماذا لم تدخلهما غرفة المكتب وهى أكثر دفئا ..؟
    فرفع رأسه ورد عليها فى نبرة هادئة :
ـ إننا هنا مع اللوحات .. وعندما نفرغ منها سنذهب إلى المكتب ..
لم تعقب .. وجلست تصغى فى صفاء تام لكل ما يقوله زوجها عن اللوحات التى حولنا .. مع أنها سمعت مثل هذا منه أكثر من مائة مرة ..
وحدثنا الرسام لماذا هو معجب بالغجر .. ولماذا لوحاته كلها عن النساء .. وندر أن يرسم رجلا فى موقفه .. حتى ولو كان بطلا .. أو زعيما .. دخل التاريخ ..
وسررنا لصراحته وتبسطه فى الحديث .. وبرز لى جليا أن المرأة تستأثر بكل اهتمامات هذا العجوز .. وأن الرسومات كلها تدور حول نموذج واحد لها يتكرر فى أوضاع مختلفة وبدا ظاهرا لكل ذى عينين أن فرشته لا ضريب لها .. وأن ذهنه لم يكف عن التجويد والابتكار حتى فى أرذل العمر ..
وكانت زوجته كما بدت لى من الساعات القليلة التى قضيتها فى مرسمه .. شديدة الحنو عليه والرعاية له .. وأدركت ذلك بكل جلاء من اللمسات البسيطة التى كانت تصدر منها ونحن معه .. كالحرص على راحته فى كرسيه وتقديم فنجان الشاى له .. ولكنى لم أر وجها لزوجته فى شبابها ونضارتها .. أو فى كهولتها فى أية لوحة من اللوحات التى فى المرسم ..
بل وجدت وجها آخر .. وجه فيه ملامح الأنثى الغجرية بكل ما فى جسم الغجرية من نعومة وفتنة وشهوة .. وما فى عينيها من بريق وعاطفة وسحر .. وما فى شعرها من سواد .. وطول ولمعان ... وما فى الملامح المتوهجة من تحد ونعومة ووحشية واستجابة ورفض ..
كل هذه الصفات مجتمعة رأيتها فى وجه الأنثى التى كانت مرسومة على الحوائط فى القاعة ..
***
ونهض الرسام ونهضنا معه ليرينا مكتبه ومكان عمله .. وفى الردهة الداخلية المفضية الى المطبخ رأيت خادمتين جميلتين فى نضارة الشباب وفى ثياب بيضاء ناصعة .. وقامة هيفاء .. وشعر أشقر .. وعينين بسامتين .. وملامح روسية خالصة ..
وسلمت عليهما وأنا اقرأ فى وجهيهما البشاشة والاستغراب وقد افتر ثغراهما عن أسنان كاللؤلؤ ..
ولما أخذنا مكاننا فى المكتبة قدمت لنا احداهما شرابا أشاع فى جسمينا الدفء .. ثم حمل الرسام بيده لوحة " عودة الابن الضال "  لرامبرانت " التى جئت من أجلها .. ووضعها أمامنا .. وأنا مذهول من روعة الفن وقدرة الإنسان فى التعبير ..
وشعرت بفرحة غامرة فقد عثرت على كنز فى بيت هذا الرجل لا يقدر بمال .. ولقد أحسنت الاختيار لأقدمها كنموذج لريشتى فى طور من أطوار حياتى الفنية الشقية .. ولقد نقلت بعض اللوحات الخالدة من قبل .. ولكن هذه اللوحة ستمتزج بروحى الضالة .. وستخرج قطعة حية من نفسى ..
وحدثت " عائشة " لتترجم للرجل رغبتى فى نقل اللوحة على فترات متقاربة ..
وقبل الأستاذ واختار لى الساعة الخامسة من كل يوم وهو الوقت الذى يلائم " عائشة " ويلائمنى ..
وسلمنا على الرجل واتخذنا طريقنا الى الخارج .. وفيما أنا أستدير فى اتجاه الباب .. أطلت علينا من الطرقة الجانبية فتاة بوجه نافر فيه كل سمات الغجر .. وسددت إلىّ نظرة طويلة من عينين صافيتين شديدتى البريق .. فتسمرت على الباب أجاوبها على نظراتها الفضولية وأنا خجلان من هذه الحركة التى جاءت عفوية ..
وحيينا الرسام وانصرفنا وأنا أفكر فى هذه الغجرية " أنها معه فى البيت " ومنها كان الالهام وكان النموذج .. بل كان وجوده بأجمعه ..
ورافقتنى " عائشة " حتى باب الفندق لأنى لا أعرف الطريق إليه وحدى ..
وجلست فى غرفتى أتطلع من وراء الزجاج إلى المدينة .. وأنوارها تسطع .. والثلج يغطى الأشجار وأسطح البيوت .. ويبدو المجمد من مياه نهر " كورا " الذى تتساقط عليه أنوار الفندق ..
وكان جو الغرفة الدافئ يحمل على النعاس .. ولكن المنظر سحرنى .. وجعلنى لا أفكر فى النوم .. وأخذت أقلب فى بعض اللوحات الفنية الصغيرة من حجم " الكارت بوستال " التى قدمها لى الرسام كتذكار .. وكانت صورة الغجرية بارزة فى كل لوحة منها .. الوجه .. العينان .. الصدر .. الشعر .. والقامة الفارهة الميساء ..
***
وفى الصباح جاءت عائشة الى الفندق .. وكان اليوم يوم عطلة فى معهدها .. فقضينا الصباح كله نتجول فى المدينة .. وفى الظهر صعدنا فى المركبة الكهربائية إلى التلال وتغدينا هناك فوق الربى وبين الثلوج ..
وفى العصر نزلنا بالمركبة .. وكان الجو الثلجى يعصف فالتصقت بى وضممتها بدثارها إلى كتفى مخافة أن تنزلق من سرعة المركبة ..
   وكانت عيناها تفيضان بالبهجة ووجهها يتموج بابتسامة العذراء الخفرة .. وهى ترفع إلى شفتيها لأول مرة كأسا حلو المذاق ..
***
وفى الساعة الخامسة كنا ندق باب الرسام .. وخصص لى الفنان زاوية من حجرة فى الداخل لأنقل فيها الرسم .. بعيدا عن حركة البيت حتى لا أشغل أثناء عملى بأى شيء آخر ..
وبدأت متأنيا ليأتى الرسم متقنا ومشابها للأصل الذى أنقل منه .. وحتى لا أخيب ظن الأستاذ الذى قدم لى اللوحة النادرة عن طيب خاطر ورفض أن يتقاضى أجرا على النقل .. وكنت فى الوقت عينه أريد أن أشاهد الغجرية عن قرب .. فالنظرة الأولى منها هزت مشاعرى واستقرت فى سويداء قلبى ..
ومرت أربعة أيام ثقيلة لم أرها فى خلالها .. وشعرت بالضيق وبتوتر نفسى .. وكانت " انجا " إحدى الخادمتين الجميلتين تقدم لى الشاى والفطائر كلما حضرت .. وتحاورنى بالاشارة وهى تعجب لوجود مصرى فى هذه البقاع ..
والزوجة العجوز تقدم لى بيدها شرابا منعشا لأقاوم به البرودة وأنا خارج .. والرسام الكهل يمر علىّ ويسأل بالإشارة عن حاجتى من الفرشاة والألوان .. وأنا أشكر وأخجل لكل هذه الحفاوة البالغة ..
ولكن الشيء الذى أتمنى رؤيته كل يوم لم يظهر لى بعد ..
ثم ظهر دون أن يكون ذلك فى الحسبان فقد فتحت لنا الباب بيدها ذات مساء .. وظهر الاضطراب على وجهى وخشيت أن تلاحظ " عائشة " ذلك .. التى كانت ترافقنى إلى بيت الرسام فى كل زيارة .. ثم تستأذن وتنصرف إلى عملها .. خشيت أن تلاحظ عائشة ذلك تلك الفتاة النبيلة التى صحبتنى فى جولاتى كلها كمترجمة ودليلة .. وحرصت على راحتى ..
وأعطتنى كل وقت فراغها دون غاية .. ولكن مر الأمر بسلام ولم تلاحظ شيئا .. وانصرفت " عائشة " وهى على حالتها من الهدوء والرصانة ..! وقادتنى الغجرية إلى الحجرة التى أرسم فيها وهيأت لى المكان ..
وسألتها :
ـ أتعرفين الإنجليزية أو الفرنسية ..؟
فأجابت برنة التحدى .. وقد كسا وجهها تعبير عنيد متوحش :
ـ أعرف اللغتين ..
ـ هذا جميل .. لقد أتعبت " عائشة " ..
وسدرت بعينيها كأنها تقول لى لست مترجمة لك ..
    ثم قالت فى إيناس :
ـ سيأتى الأستاذ حالا ..
ـ لا داعى لازعاجه ..
وجلست إلى اللوحة .. وغابت هى فى الداخل .. وأخذت من حين إلى حين أتطلع وأتسمع بعد أن عرفت نبرات صوتها وصفاته .. صوت أبح .. نصف مذبوح .. فاسمعه فى لغة روسية سريعة .. فيزداد وجيف قلبى ..
وكنت أقضى فى بيت الرسام ساعتين كل يوم .. من الخامسة الى السابعة .. وأود لو أزيدهما الى منتصف الليل .. لأسمع صوتها أكثر وأكثر .. وأسمع وقع أقدامها وأشتم العبير الذى يخرج مع أنفاسها وهى تتحرك فى أرجاء البيت ..
وبعد خمسة أيام .. مات كل من معها فى المنزل .. وعاشت هى لى وحدها .. أصبح الرسام العجوز وزوجته وخادمتاه " انجا " و" سونيا " .. أمواتا .. وغدوت أعيش وأتحرك من أجلها ..
وكنا نتبادل كلمات قليلة .. مصحوبة بالابتسامة الخفيفة ولا شيء أكثر ..
ولكننا كنا ننسج خيوط الغرام النارى فى بطء وقوة دون أن ندرى .. وأصبحت هى التى تقدم لى الشراب .. وهى التى تأتى بالألوان .. وتحركها كلما جفت ..
وكانت تلبس ثوبا واحدا لا تغيره ولكنه منسوج من خيوط من نار .. ثوبا أحمر ضيقا من الصوف .. يبرز تقاطيع الجسم كله بثنياته وطياته ونعومته .. وجعلته مفتوحا من الصدر ... فنفر النهدان مكتنزان وبرز العنق ورديا فى صفاء المرمر .. وانسدل الشعر متموجا طويلا مرسلا يلامس الوجنتين ويغطى الأذنين .. ويسترسل كذيل الحصان على الظهر الأملس ..
ولم يكن فى ساقيها جورب .. ونحن فى الشتاء .. ولا فى قدميها حذاء ثقيل ولكنها لبست خفا من الوبر الناعم خفيف الوطء على أرض البيت وبسطه ..
وفكرت فى أنها لا تخرج ابدا .. وأن الرجل حبسها بعد أن عثر عليها .. ورضيت بالحبس مع ما فى طبعها من قلق .. لأن الرجل متيم بها وهى تحترم حبه وعمله ..
لقد جن الرجل بها .. وجاء الآن دورى لأجن ..
وكنت أخاف أن أتمم الرسم .. فلا أجد بعده عذرا لدخول بيت الرجل .. ولهذا أخذت اتباطأ وأنا شاعر بالخجل .. وكانت الغجرية قد قرأت صفحة قلبى .. وعرفت أننى أتعلل بالرسم لأراها وأكون عن قرب منها كل يوم .. وأدركت ذلك من نظراتى الضارعة وشحوب وجهى كلما التقيت بها .. أو قدمت لى شيئا .. أو لامست أناملى يدها ..
فأدركت أننى مجنون بها حباً ..
ولقد لذها أن يجن بها غريب .. جاء من أقصى الأرض وخرج من أهرام خوفو .. وساح فى البلاد ليجن بها بعد أول نظرة ..
وكانت فى الأيام الأولى من عملى فى اللوحة ترينى وجهها .. أو جانب ظهرها لثوان معدودة ثم تختفى فى لمح البصر ..
والآن بعد أن انقضى أسبوع كامل .. أصبحت تقف على رأسى وأنا أرسم .. ويلامس ثوبها بذلتى .. وتترك يدها تلامس يدى .. وأنا أتناول منها فنجان الشاى ..
وعندما كنت أحدق فى عينيها .. كنت أجد فيهما الصمت التام .. فلا بادرة لأى استجابة لعواطفى الصارخة ولا أمل ..
كنت أتمزق من اللوعة واليأس .. ولكن نظراتى ظلت تلاحقها وتعبر لها عن عواطفى الملتهبة ..
وشعرت بها ذات يوم تقف وراء كرسى .. وتتطلع الى الرسم .. وتقول فى نغمة فيها من العذوبة أكثر مما فيها من الاطراء المصطنع :
ـ الرسم جميل .. نقلت اللوحة ببراعة ..
ـ حقا ..؟
ـ هذا ما قاله الأستاذ وأنت تعرف مكانته ..
ـ يسرنى رأيك .. ولكنى أريد أن أفعل شيئا يخلدنى .. شيئا تتوق إليه نفسى منذ رأيتك ..
ـ ما هو ..؟
ـ أرسمك أنت ..
وردت فى استغراب واستنكار :
ـ ترسمنى أنا ..؟!
ـ أجل أرسمك أنت .. وقطعت آلاف الأميال لأفعل هذا ..
وضحكت وغابت فى الداخل ..
وبعد نصف ساعة عادت تحمل لى مشروبا .. فقلت لها هامسا :
ـ مازلت مصرا على رسمك ..
ـ لا تفكر فى هذا أبدا ..
ـ سأستأذن الأستاذ ..
- انه لا يسمح لى مطلقا .. فلا تسبب لنفسك الحرج ..
ومع هذا ظلت الفكرة مسيطرة على تفكيرى ..
وكانت عائشة ترافقنى فى الذهاب إلى بيت الرسام .. وتأتى فى السابعة لتعود بى إلى الفندق أو تتجول معى فى المدينة ان كان الجو حسنا .. وكانت تحرص على ذلك خشية أن أضل الطريق .. ولأن والدتها أكدت عليها مرافقتى إلى حيث أذهب .. لأنى لا أعرف الروسية .. ويصعب علىّ التحرك من غير رفيق ..
وذات ليلة سمعت رنين التليفون أثناء عملى فى اللوحة والأستاذ يرد عليه .. ويذكر اسمى مرتين أثناء حديثه بالروسية ..
وجاءت بعده الغجرية لتخبرنى بأن " عائشة " اعتذرت الليلة عن مرافقتى لأنها ستتأخر .. وكلفت الاستاذ بأن يأتى لى بالرفيق .. أو انتظرها ولا أقلق .. وأردفت :
ـ سيرافقك الأستاذ .. أو ترافقك ليزا ..
وسألتها ..
  ـ ومن هى ليزا ..؟
  ـ إنها أنا ..
     وابتسمت ..
     ولأول مرة أعرف اسمها ..!!
     ولم أعقب ولكن قررت أن أنتظر " عائشة " مهما تأخرت .. ولا أسبب المتاعب لهذا الشيخ الكبير إن رأى مرافقتى ..
وحمدت الله على أنه اختار الغجرية لمرافقتى .. وخرجت ليزا من غرفتها متدثرة بمعطف ثقيل وشال وكان على وجهها السهوم .. كأنه أيقظها من حلم جميل ..
وهبطنا السلم فى تثاقل .. فلم تكن تحب الخروج فى الليل .. وقد اعتادت على أن تكره هذا من طول مكوثها فى بيت الرسام ..
وكنت أود أن نقطع الطريق بالأقدام أو نركب الأتوبيس .. كما كنت أفعل أنا و" عائشة " ولكنها أصرت على أن نركب تاكسى ..
وركبنا التاكسى وتلاصقنا وتحدثنا ورضيت نفسها .. وزال التوتر ..
وعلى باب الفندق .. أخرجت هى " الروبلات " للسائق لأنى ضيف وكما أمرها الأستاذ .. ولكن حجزت يدها بعنف ودفعت ..
ودخلنا من الباب الى حيث يوجد الدفء ..
وكانت صالة الفندق الرحبة خالية إلا من قليل من الرواد .. وبعد الشاى كانت تود أن تنصرف ... ولكنى ألححت عليها أن ترى غرفتى ..
وركبنا المصعد إلى الدور الثامن عشر .. وسرها جمال الغرفة .. فقد كانت تطل على النهر من النافذة الواسعة المتصلة بالشرفة الدائرية ولم يمنعها البرد الشديد من أن تفتح باب الشرفة وتطل على المنظر الساحر كله .. وخرجت وراءها رغم أنى لم أتعود مثلها على هذه البرودة ..
ووضعت يدها على عاتقى .. فحملقت فى عينيها .. وقالت :
ـ إنه منظر لا تقع على مثله العين .. فلماذا لا ترسمه ..
ـ سأرسمه .. ولكن بعد أن أرسمك أنت ..!
ـ لازلت تصر ..؟
ـ كل الاصرار ..
ـ ومتى تبدأ الرسم ..؟
ـ الليلة ..!
وضحكت ودخلنا .. وردت باب الشرفة الزجاجى .. وجلست على الكنبة بعد أن خلعت معطفها وقفازها .. وجلسـت أمامها على كـرسى صغـير .. وقبل أن أفتح فمى بالحديث انطفأ النور فجأة فى الفندق كله .. وكنت أتصور أن النور انطفأ لخلل كهربائى وسيعود بعد ثوان ..
ولما طـال الوقت نهضت فى الظلام واتجهت الى الباب وعرفت من الخادمة السبب .. أنها ليلة الانتصار على الألمان .. ويحتفلون بها فى الفندق كل سنة بهذه الطريقة الغريبة ..! يطفئون الأنوار ربع ساعة كاملة ..
وعدت إلى مكانى وجلست أمام " ليزا " والظلام الشامل يلفنا .. وكنت أسمع أنفاسها تتردد وأسمع وجيب قلبى .. اعترتنى حالة من الاضطراب والفزع والقلق .. والشوق واللهفة .. اللهفة الى أن أضمها الى صدرى .. وظلت هى صامتة وبدا لى أنها كانت متخشبة فى جلستها .. وأنا فى مثل حالها خائف مضطرب موزع النفس ..
ولم أكن أدخن .. ولا كانت هى .. فربما كانت عملية اشعال السيجارة ستخفف من حدة التوتر لكلينا ..
وحمدت الله على أن الظلام قد أخفى كل ما ظهر على وجهى من شحوب واضطراب .. وجلست مستكينا .. ملتاعا .. وطال الجلوس ..
وعاد النور .. فكأنما مسنا بسيالة .. وحرك كل ما فينا من جمود .. وأظهر الضوء كل ما دار فى نفسينا من عواطف أثناء الظلام ..
وسألتنى وهى تحدق فى وجهى :
ـ لماذا تحدق فى وجهى هكذا .. كالأبله ..؟
ـ كنت أفكر فى شيء استأثر بلبى ولم أفعله ..
ـ ما هو ..؟
ـ أقبلك فى الظلام ..!
ـ ولماذا لم تفعل ..؟
ـ خشيت أن تقولى أنه استغل الموقف .. وأستطيع الآن أن أطفئ النور ..
ـ لا .. إن هذا سيكون من فعلنا وإرادتنا .. ولن يكون له طعم القبلة الأخرى .. كنت أود أن أتذوق القبلة فى ظلام لا إرادة لنا فيه ..
ولم تكن الحسرة على شيء ضاع ينفعنى أو ينفعها .. ولكن اعترانا معا شيء من الغم النفسى .. خشيت أن يمتد أثره فأبديت لها رغبتى فى أن نتعشى فى الدور العلوى للفندق .. وقلت لها بأنى سأتلفن للأستاذ وأستأذنه فى ذلك .. ولما كانت تشعر مثلى بالجوع الشديد .. فقد صعدنا السلالم إلى المطعم .. وطلبت هى بالروسية كل ما رغبنا فيه من طعام وشراب ..
وعاد إلينا المرح بعد الطعام والشراب وسماع الموسيقى ..
وتجدد الحديث عن رغبتى فى رسمها .. فوافقت على أن ارسم وجهها فقط .. فى مدة لا تتجاوز ثلاث جلسات ... وسألتنى :
ـ كيف عرفت " عائشة " ..
    ـ التقيت بها منذ ثمانى سنوات فى " برلين " .. ومن وقتها ونحن نتراسل ..
ـ ولماذا اخترت لوحة " عودة الابن الضال " .. فعند الأستاذ لوحات نادرة لفان جوخ وروفائيل ..
ـ لأنى الابن الضال ..
    وضحكت وقالت :
ـ يبدو هذا واضحا ..
ـ قد لا تعرفين أننى تركت بلادى منذ ثلاثة عشر عاما .. وأصبحت من وقتها جواب آفاق .. طفت ببلاد كثيرة وغدوت رساما محترفا لأعيش حتى لا أموت من الجوع ..
ـ وإلى متى ستظل ضالا ..؟
ـ الى أن أعثر على بغيتى من الحياة .. لقد عشت حياتى أعشق الجمال والحرية ..
ـ وما هى أجمل المدن التى شاهدتها فى جولاتك كلها ..؟
ـ هونج كونج .. إنها جنة الدنيا .. وآه لو تخلصت من الرقيق الأبيض .. ومن الإستعمار .. ستصبح نهاية المطاف لكل حى ..!
 آه عندما تدخل وتخرج وفى جيبك الجنيه والدولار والفرنك والروبل والمارك .. إنها مبتغى كل إنسان .. ولكن الأغبياء والجهلاء يضعون القيود ويشوهون وجه الحياة ..
ـ وما هى أعز أمانيك فى الحياة ..؟
ـ أن أسافر من بلد إلى بلد دون جواز سفر ودون قيود .. إنها الأرض التى خلقها الله للناس جميعا ..
ـ  وهل أعجبتك تفليس ..؟
ـ جدا .. لأنى وجدتك فيها ..
ـ إنك تحمل قيثارة الشعراء تحت لسانك لتغنى بها وأنا لا أستطيع أن أجاريك ..
ـ أنى أقول الحقيقة ..
ـ لم أسهر قط خارج البيت منذ هبطت تفليس ولا أدرى كيف سمح الأستاذ لى بالخروج فى هذه الليلة إنه يعزك كفنان شاب ..
ونزلنا إلى غرفتى لترتدى معطفها وقفازها .. ولما استعدت للخروج لم أكتف بمرافقتها إلى بهو الفندق فى الدور الأرضى .. بل ركبت معها التاكسى إلى باب بيتها .. وعدت فى نفس التاكسى .. بعد أن حدثت ليزا السائق عن اسم الفندق ومكانه ..
وكانت تضحك لجنونى وطباعى ..
***
وبعد أن اتممت عملى ونقلت اللوحة .. سر بها الأستاذ وأراد أن يكرمنى قبل سفرى برحلة في الريف ..
واستعار لنا سيارة من صديق له .. إذ أن الذهاب فى سيارة أجرة كان سيكلفنا الكثير ..
ودرجنا فى طرقات تفليس نحو الأربعة أنا والرسام والغجرية وعائشة .. وكانت الساعة تقترب من الثالثة بعد الظهر .. والشمس تطلع وتغيب ولكن الثلوج لا تنقطع وهى حالات مألوفة للسائح فى روسيا ..
وكان السائق العجوز الذى تخطى السبعين يسير على سرعة عادية وسط تساقط الثلوج وقد شغل المساحة الأمامية .. وجهاز التكييف فى داخل السيارة ..
وكان يعرف كل شبر فى الطريق .. وتركنا له الأمر .. واسترسلنا فى الحديث فى كل الشئون .. وكان المنظر من حولنا ساحرا .. والثلوج على الجانبين .. تغطى فروع الأشجار الصغيرة .. وأسلاك النور .. والبرق .. وسطوح المنازل الواطئة .. وكلما ازداد تساقط الثلوج خفف السائق من سرعته .. ولقد أشفقنا عليه من مزالق الطريق .. ولكنه كان بارعا إلى أقصى مدى ..
وكنت مأخوذا بكل ما حولى من أشياء غير مألوفة لدىّ فى عالم الطبيعة .. فقد أصبحت الثلوج المتراكمة كتلال من الرمال البيضاء الناعمة .. وأصبح الأفق ورديا .. والسماء فى لون الشهب ..
وأصبحنا نمضى فى تيه كله بياض .. فى الأرض والسماء ..
وكنت أعجب للعصافير التى أراها تعيش فى هذه البرودة الشديدة .. ترقد على فروع الأشجار وتتحرك وتزقزق .. لقد منحها الله الخصائص التى تعيش فيها فى كل مكان فى الأرض ..
***
كنا نسير فى الطريق المألوف .. لكن الحال اختلف بعد ساعة .. فقد كان الجو فى كل دقيقة ينقلب من سئ إلى أسوأ .. وقد حجبت الغيوم جو السماء .. وانقلب النهار ليلا قبل حلول الليل واشتعلت المصابيح فى الطريق ..
وأطبق الليل برواقه .. وغدا الأفق ساقطا .. ولم أعد أبصر سوى أشباح الأشجار .. أما بياض الثلج على الجانبين فقد انقلب الى لون رمادى داكن ..
وكانت الغجرية وعائشة فى الجزء الأمامى من السيارة بجوار السائق .. وأنا والأستاذ فى المقعد الخلفى ..
ولما كثر الثلج المتساقط خفف السائق من سرعته وأصبح يسير الهوينا ..
وعدت لا أرى من حولى شيئا سوى أنوار كابية على مصابيح زرقاء غطاها الثلج فأرسلت نورا ضعيفا باهتا ..
ولم تعد هناك مساكن ولا بيوت على الاطلاق .. ولا شيء سوى الجليد .. وتذكرت قصص " جاك لندن " عن الجليد .. والجمد .. والصقيع الذى يميت الأطراف ..
وبصرت بالغجرية أمامى فى حالة نعاس ورأسها كله استراح على كتف عائشة .. أما الأستاذ فقد استرخى تماما وكان قد شرب كثيرا من النبيذ على الغذاء .. ولم أعد أشعر بأنفاسه ..!
وأحسست بالعربة وهى تتوقف فى اللحظة التى صحت فيها " ليزا " ..
***
منعتنا الثلوج عن مواصلة السير .. وحجزتنا فى مكان منعزل فلم يكن حولنا أية دلالة تدل على وجود الحياة فى هذه المنطقة ..
وشعرت بالخوف .. فلو توقف جهاز الدفء الذى يعمل فى العربة فسأموت أنا وحدى من البرد .. لأن الآخرين تعودوا على مثل هذا الصقيع ..
ورغم شدة الموقف لم يفقدوا مرحهم .. وظلت الغجرية تضحك .. وخرجت من العربة وأخذت ترمينا بكرات الثلج .. أما عائشة فكانت تشفق على حالى ولكن ظلت مبتسمة ..
ورأيت السائق العجوز يتناول المجرفة ويجرف الثلوج ويفعل كل ما فى طاقته حتى يواصل طريقه وشاهدت عرقه يتصبب وشرايينه تبرز وهو يحرك يديه .. وأخجلتنا حركته فخرجنا جميعا نساعده فى عمله ..
وبالاصرار على مواصلة السير .. سرنا .. وخرجنا إلى طريق أقل ثلجا وأحسن حالا ..
ووصلنا إلى قرية " جورى " بعد الغروب ونزلنا فى بيت أولجا قريبة الأستاذ ـ  وكانت تعمل معه – نحتمى من البرد والصقيع وقد أعدوا البيت لاستقبلنا ..
أوقدوا لنا النار فى الغرفة التى تعشينا فيها .. وشعرنا بالدفء وكانت والدة أولجا تتحرك كالنحلة .. وتقدم لنا كل ساعة شيئا جديدا ..
كانت مسرورة من زيارة الأستاذ وضيوفه ولم تر ليزا وعائشة إلا فى هذه المرة ..
وجاء وقت النوم .. فأفردوا لى غرفة خاصة تشتعل فيها المدفأة .. ووضعوا على السرير بيجامة نيقولا الأخ الأكبر " لأولجا " وكان غائبا فى عمله ..
ونامت ليزا فى غرفة الأستاذ وعائشة مع أولجا ..
***
ونمت وعيناى على نار المدفأة ..
واستيقظت على نقر خفيف على الباب .. ودخلت ليزا تلبس بيجامة من الصوف وردية وأدركت أنها بيجامة " أولجا " ..
وقالت هامسة وهى تقترب من الفراش ..
ـ أحمد .. إن الأستاذ يموت ..
    فنهضت مفزوعا .. وسألتها :
ـ ما الذى أصابه ..؟
ـ مغص حاد .. وقئ .. أنه يموت .. لابد أن نفعل شيئا ..
ـ ولماذا لم تخبرى أولجا .. ؟
ـ إنها نائمة .. ولم أشا أن افزعها .. وأمها ذهبت لحلب الأبقار فى المزرعة ..
ـ يجب أن توقظيها لطلب الطبيب فأنا لا أستطيع أن أفعل شيئا .. لقد هربت فى بلدى من المرض والموت ..!
ـ افعل شيئا كرجل وتعال لتراه ..
    وجذبتنى من ذراعى ..
لم يكن باستطاعتى أن أفكر فى الموت دون رعب لأنى أعرف حبها الشديد للأستاذ ..
فمشيت بجوارها إلى غرفة الأستاذ وأنا أشعر بالخوف .. فأنا أكره المرض ولا حيلة لى مع الموتى .. وما يتبع الموت من اجراءات معقدة فى بلدى كرهتنى فى الموت فى كل مكان ..
وأحس العجوز بوجودى فى الغرفة وفتح عينيه بصعوبة .. ودثرناه بالبطانية .. وحركنا نار المدفئة .. وبقيت بجواره مدة ليست بالطويلة وليزا بجانبى جامدة كأنها تمثال ..
وقلت لها :
ـ لقد نام الأستاذ .. وحرارته عادية .. وفى الصباح سيتحسن ويبرأ تماما .. فلا تشغلى بالك ودعيه يستريح ..
وخرجت وأحسست بها ورائى ..
ـ لماذا تركته وحده ..؟
ـ لكى ينام ..
ـ ربما يصحو .. فيفتقدك ..
ـ لن يصحو الآن ..
ودخلت غرفتى .. ودخلت ورائى وهى تبكى وردت الباب ..
وجلست على الكرسى الطويل الوحيد فى الغرفة وجلست هى على السرير حزينة ملتاعة ..   وسألتنى :
ـ كم الساعة الآن ..؟
ـ الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ..
ـ هناك وقت لتنام .. أمامك خمس ساعات للنوم .. وساعة للافطار .. سنعود فى الساعة التاسعة ..
ـ إذا جرفت الثلوج ..؟
ـ لقد جرفت فى الليل .. هكذا عادتهم ..
    ـ أرجو أن يتحمل الأستاذ رحلة العودة بالسيارة .. وهو على هذه الحالة ..
ـ أرجو أن يتحملها .. وإذا مات فى الطريق .. سأذهب معك ..
ـ إلى أين ..؟
ـ إلى مصر .. وإلى كل مكان ..!
ـ وإذا عاش ..؟
 ـ لا أستطيع فراقه ساعة واحدة .. أنها سلسلة قوية عبر السنين .. لقد جاء بى مع أمى من المجر .. وكان عمرى أربع سنوات .. تصور أكثر من خمس وعشرين سنة .. ربع قرن كامل .. وأنا لاصقة به كلحمه .. فكيف أتركه الآن ..؟
ـ ولكنه سيموت يوما .. وليس لك من وطن هنا ولا أم .. فكيف تعيشين .. وكيف تواجهين الحياة ..؟
ـ سأعمل ..
ـ أنت لا تجيدين عمل أى شيء على الإطلاق .. ولا طاقة لك على العمل لا فى البيت ولا خارجه .. وقد دللك الأستاذ فى بيته .. وملأه بالخادمات من أجلك .. فتعطلت كل مواهبك ..
ـ سأسافر .. وأعمل فى مكاتب السياحة .. فأنا أجيد ثلاث لغات ..
ونظرت إلى عينيها فى ظلام الغرفة .. وكانتا تشعان ببريق غريب ..
ولمست بيدى شفتيها .. فوضعت يدها على عاتقى .. ودارت مستندة على كوعها .. واقتربت بفمها .. فجذبتها إلى صدرى وقبلتها بوحشية ونهم .. وأنا أحس الجليد على الشفتين الملتهبتين ..
وظلت تطوقنى وأنا جالس على الكرسى .. وأحس بحرارة أنفاسها .. وضربات قلبها ..
وكنت وأنا أعانقها أفكر فى الموت .. وفى عائشة التى تحبنى .. والتى تنام فى غرفة أخرى من المنزل ولم أبادلها عواطفها الصامتة .. لقد امتلأ قلبى بالحنان لها ..
وأحسست بدموع الغجرية على فمى .. سمعت تنهداتها .. كانت السلسلة قوية ولا تستطيع الفكاك منها ..
وكنت أتعذب لأنى أحببت شيئا ليس لى .. وكانت الحياة بكل قسوتها تجثم على صدرى وأنا أمسح بيدى على ظهرها الناعم ..
وسمعنا صوته فى الليل الساكن فلبست خفها فى سكون ..
وفكرت فى عائشة الفتاة النبيلة التى تعيش معى بقلبها وعقلها منذ سنوات .. والتى ظلت معى برسائلها وأنا أتنقل كالضال فى أوروبا وأسيا .. لقد شردنى الخوف .. وأضلنى ولقد عشت عمرى أعشق الجمال والحرية ..
وبعد أن ردتنى اللوحة إلى عقلى وبددت الخوف آن لى أن أعود ..
أعود ومعى " عائشة " التى لم ألمس حتى شفتيها إلى الآن .. رغم غربتى الطويلة وحرمانى ..



======================== 
نشرت القصة تحت اسم " عودة الابن الضال " فى مجلة روز اليوسف بالعدد 2394 بتاريخ 29/4/1974 وأعيد نشرها فى كتاب " عودة الابن الضال سنة 1993
=======================