الجمعة، 17 أبريل 2015



الرسالة

     فى ليلة من ليالى أكتوبر استدعى الملازم " كمال " الضابط فى الجيش من بيته فى ضاحية مصر الجديدة ..
     وبعد أيام قليلة اشتعلت نيران الحرب بيننـا وبين اسرائيـل ، فعرفت زوجته لماذا استدعى زوجها فى الليل ..
     وفى غمرة الحرب والعبور والانتصار ، نسيت سهير نفسها ، ونسيت زوجها .. وأصبح الفرد لا وجود له فى نظرها بعد أن تحرك المجموع ..
     نسيت فى هزة الانتصار زوجها كضابط .. ورأته فى رمال سيناء ، قدمين صغيرتين تتحركان وسط الوف الأقدام القوية نحو هدف عظيم ..
     وسط دخان المعركة ودوى القنابل والصواريخ وأزيز الرصاص .. أصبح زوجها بكل صفاته الخلقية وشجاعته .. ترسا صغيرا فى آلة كبيرة تتحرك فى عنف وضراوة .. فلم يعد له صوت مع صوت الآلة وضجيجها .. وإن كان له وجود حتمى ..
     وكانت تسكن فى شقة صغيرة من عمارة كبيرة بتلك الضاحية ، وفى نهاية خطوط " المترو " .. حيث السكون المطلق ورمال الصحراء .. التى تذكرها دوما برمال سيناء ، التى يحارب فيها زوجها .. وتقيم معها " شغالة " فوق العشرين تؤنسها فى وحدتها ، وتعاونها فى عمل البيت .. وان كانت سهير فى الواقع تقوم بعمـل البيت كله حسب مـا تعودت فى بيت أبيها قبـل أن تتزوج ..
     ولهـذا اعتـادت أن تخرج فى الصباح ومعها الشـغالة .. وتركب " المترو " محطة ومحطتين .. لتذهب إلى السوق بنفسها ، وتشترى ما يلزم للطعام اليومى .. ولم تنقص الكمية إلا قليلا .. لأنها كانت تتوقع عودة زوجها فى كل ساعة ..
     ولم تكن وهى خارج البيت فى النهار ترى الاحساس بالحرب فى وجوه الناس ،  وكان ذلك يغيظها أولا ولكن بعد التفكير أدركت السبب .. فالحرب بعيدة عنهم .. ومن أبرز صفات الناس فى القاهرة الهدوء ومزاولة عملهم اليومى بصورة عادية ، فهم يملكون زمام أعصابهم .. وتظهر شجاعتهم بأروع صورها فى ساعة الاختبار ..
     أما فى الليل فكانت سهير تحس بالحرب كأنها قريبة جدا .. من الاظلام التام لمصابيح الشوارع .. وقيود الاضاءة فى البيوت ..
     وكان الظلام يطبق برواقه على هذه المنطقة الصحراوية القليلة السكان بعـد الغروب مباشرة .. ويخيم السكون التام  والوحشة الرهيبة ..
    ولذلك ندر أن تخرج " سهير " فى الليل أو تنزل إلى الشارع .. وقد أوجد الظلام الفة قوية بين سـكان العمـارة .. لم تظهر بمثل هذه الصورة من قبل قط ..
     وتطوعت السيدات فى الهلال الأحمر وفى الجمعيات النسـائية .. ليعملن فى المستشفيات ، ويقمن بإرسال الهدايا والرسائل إلى الجنود فى الجبهة . وكانت سـهير وهى فى بيتها تشاركهن هذا العمل بفرح ونشاط ..
     وأحست بان كل من حولها قد تحول بمشاعره إلى مكان هناك فى سيناء .. وفى هذا المكان تتجمـع كل الرغبـات والجهود وتتبلور ..
     وفى مساء يوم توقف القتال .. وأخذ بعض المقاتلين يعودون من الجبهة فى أجازة قصيرة ..
     وكانت " سهير " تتوقع عودة زوجها كما عاد هؤلاء .. فلما لم يحدث هذا .. بدأت تقلق وتنتابها الهواجس ..
     وكانت تقرأ السؤال عنه فى عيون جيرانها وصديقاتها .. دون أن يسألوها بألسنتهم .. شفقة بها وعطفا عليها ..
     وعندما تقرأ خواطرهم وما فى أذهانهم من أفكار .. يشحب لونها .. وتتندى عيناها بالدموع ..
     ثم بلغ القلق مداه عندما أخذ أهلها يسألون عنه صراحة فى التليفون وفى زيارتهم لها .. وفى كل يوم يكون السؤال الذى يمزق أعصابها .. فاضطرت بعد التفكير أن تكذب وتقول لهم بأنها تلقت منه رسالة حدثها فيها عن عمله البطولى فى الحـرب .. وكيف كانت فرقتـه أول فرقـة فى الجيش عبرت القناة ورفعت العلم .. وسرى الخبر فى الحى الصغير الذى تعيش فيه . . وأحست بأن الناس ينظرون اليها فى إكبار .. وكل واحد منهم يتمنى أن تكلفه بخدمة .. كانت السعادة تغمرهم إذا ساعدوها فى أبسط الأشياء ..
     وكانت فيما مضى من الأيام تسخر من الناس البسطاء الذين تسمعهم فى الإذاعة يبعثون بسلامهم إلى أقربائهم البعيدين عنهم ..
     فأصبحت الآن تتوق لأن تفعل مثلهم .. تتلهف الآن لأن تبعث السلام والتحية إلى زوجها .. البعيد عنها .. وتعطى روحها لمن يسمعها صوته فى الراديو .. صوته من بعيد وهو فى قلب سيناء ..
     أما من يحمل اليها رسالة منه فإنها تعطيه كل ما عندها .. كانت الرسالة تستغرق كيانها وبؤرة شعورها وأصبحت تحلم بها ..
     وكانت تجلس فى الصـالة مـدة طويلة وحدها .. وتدع الشغالة تنام .. لأن الصالة قريبة من الباب الخارجى الذى تجىء منه الرسالة .. وإذا قرع الجرس .. جرت متلهفة إلى الباب .. فإذا وجدته صبى المكوجى أو بائـع اللـبن .. تخشبت على الباب وأصيبت بخيبة أمل .. وقد تسب الطارق ..
     ولكنها تنتظر ..
     أصبح التفكـير فى شىء واحد .. الرسالة .. التى يحملها رســول .. أو تجدها تحت عقب الباب .. هى شاغلها الوحيد فى الحياة ..
     كانت تفتح الراديو .. وتسمع الأخبار .. والأناشيد الوطنية والموسيقى وكانت تقرأ ما تحب من الكتب ..
     وكان بعض من جـاراتها يزرنها فى النهار والليل كلما وجدن الفراغ .. ولكنها كانت تفضل أن تقضى وقتها بمفردها .. وكانت هذه العزلة هى أحب الأشياء إلى نفسها ، لأنها تجعلها تفكر فيه وحده ، وتحصر نفسها فى عمله هناك .. وتتصوره وهو فى الخندق .. أو فى العراء .. مقاتلا أو مستريحا .. يفكر فيها .. كما تفكر فيه ..
     انقضى على زواجهما ثلاث سنوات فقط ولكنها فى عمر ما توثق بينهمـا من روابط اللحم والدم .. أكثر من ثلاثين سنة ..
     وكانت تتوق لأن تنجب منه .. ما دامت بعد أن تزوجت قد رضيت بأن تترك الجـامعة وتتفرغ لعمل البيت ، بيد أن الولد لم يأت بعد .. وقد يأتى غدا .. ولكنها كانت تتوق إلى وجوده فى أحشائها فى هذه اللحظة لتشعر وهو بعيد عنها بأن قطعة منه فى أعماقها .. تتحرك وتنمو .. وتنتظره كما تنتظر هى ..
     وكان يثيرها ، ويهز مشاعرها ، ويلهب نار الشوق إلى زوجها .. ما تراه فى الشارع من الجنود العائدين من الميدان فى أجازات قصيرة .
     فإذا رجعت إلى البيت ، جلست صامتة غـارقة فى أفكارها .. وكلمــا  مرت الأيام ازداد قلقها العصبى واشتد ..
     وكانت تمر عليها ساعات تقف فيها وراء باب الشقة وهى ترتجف حابسة صوت أنفاسها .. منتظرة الرسالة وهى تسقط من تحت الباب .
     وأصبح ما تعانيه من توتر فى أعصـابها .. أشبه بالمرض ..
     ذات ليلة من الليالى الأخيرة من رمضان .. نامت دون سحور .. لأنها كانت تشعر بتعب شديد ..
     ورأت زوجها فى الحلم يخوض معركة ضارية .. وكان فى مقدمة الصفوف مع المشاة .. تقدموا واخترقوا طوابير العدو .. مهللين منتصرين .. وانقلب الجو كله إلى نيران تتأجج ودخان وقصف ..
   وفى غمار المعركة .. أصيب جندى مصرى .. وأحس به زوجها .. فرجع إليه يحمله وحده .. والرصاص حوله يتساقط .. حمله ومشى به حتى وضعه فى عربة الميدان الطبية .. وفى أثنـاء هـذه الحركة أصيب زوجها برصاصة وسقط ..
     واستيقظت من نومها مذعورة ..
     كانت تعرف طباع زوجها ، وهو يفعل مثل هذا وأكثر منه .. ولذلك اشـتد بها القـلق .. وزاد الحلـم بكل ما فيه من بشاعة من أحزانها وتعاستها .. وبكت .. وتعجبت كيف تطاوع نفسها وتبكى من حلم .. ولماذا تمزقت أعصابها هكذا ..
     ونظرت من النافذة فوجدت الشمس ساطعة .. فأدركت أنها تأخرت فى النوم إلى الضحى .. ونامت كثيرا مع أن مدة الحلم لم تستغرق أكثر من خمس دقائق .. وعكس الحـلم سوء المزاج على نفسها .. وشهيتها للطعام حتى فى أيام العيد ..
    وفى اليـوم الثالث للعيد .. جاء والدها من " اتليدم " فى قطار الظهر .. سمعت صوته بعد أن فتحت له " الشغالة " الباب فأصلحت من شأنها وجرت إليه فقبلت يده ، وجلست بجانبه تسأله عن والدتها وأخواتها فى البلد .. ولاحظ ما على وجهها من شحوب ، فعرف سببه ولم يحدثها عن شىء يثير فيها القلق .. لم يسألها عن زوجها .. كما لم يحدثها عن ابنه " مختار " وهو أخوها الذى يقاتل مع زوجها فى الجبهة .. لم يحدثها عنهما وإن كانت على يقين من أنه جاء إلى القـاهرة ليتسمع أخبارهما ..
     ولكنه رجل ويملك زمام أعصابه .. ويستقبل الحرب وكل ما يجرى فيها كأمر عادى حتى وإن كان فيها أعز أبنائه .. أنها تعرف صفات والدها وشجاعته كرجل فى كل الأحوال والظروف ..
     ولو استشهد ابنه " مختار " سيقول كما قالت الخنسـاء من قبـل " الحمد لله الذى شرفنى بقتله " ..
     كانت تعرف طباع والدها .. وقد جعلها وجوده فى البيت تفكر فى أخيـها " مختـار " الذى لم تفـكر فيـه كمـا فكرت فى زوجهـا " كمــال " ولم تشتق إليه كما اشتاقت إلى زوجها .. وخجلت من نفسها ..
     كما خجلت من كل الأشيـاء التى جـاء بها والدهـا من البلد .
     وقالت برقة :
     ـ مـا هــذا كله .. يا والدى ..؟ كل مــرة تتعـب نفسك ..؟ انها زوادة سنة ..
     ـ يا بنتى سـيأتى " كمال " بعد أيام قليلة .. فأكليه من هذه الديوك .. فى الطقات الثلاث .. !
وضحكت من كلام والدها .. واستراحت لاستبشاره ومرحه .. وتغدى معها .. وصلى العصر .. ثم خرج إلى المدينة لبعض شأنه ورجع فى الليل فتعشى ونام .. وفى الصباح سافر فى أول قطار ..
     وأحست " سهير " بعد أن غادر والدها البيت .. بهزة الفراق .. ولكن وجوده كان قد أعاد السكينة إلى نفسها ، وهدوءه واستبشاره عكسا عليها الهدوء والاستبشار اللذين ترجوهما لروحها القلقة ..
       وسمعت وهى جـالسة فى الشرفة تتطلع إلى رمـال الصـحـراء ..  والســكون يخيم على المنطقـة صـوت الشيـخ " رفعت " من مسجل فى الشقة المجاورة ، كان يتلو سورة " الرحمن "       وتنبهت "سهير" وأنصـتت مأخوذة .. لقد سمعت الشيخ " رفعت " كثيرا من قبل .. ولكنها لم تسمعه بمثل هذا الصوت الحنون .. أهى حالة نفسية ..؟ وتندت عينـاهــا بالدمـوع .. أى صوت ..؟ إنه كروان يغنى فى الجنة ..
    ظلت جالسة فى مكانها ساكنة خاشعة .. حتى انتهت التلاوة وانقطع الصوت . وأحست بالحيوية والانتعاش .. وتبدلت تبدلا تاما .. ودخل قلبها الإيمـان بالحيـاة . . وأعدت مائدة الغداء بعناية فائقة .. أعدت طبق زوجها .. ووضعت أدوات المائدة الخاصة به ..
     وجلست تأكل وكأنه أمامها .. يحـدثها حديثـه المألوف .. وبعد ساعة دخلت الحمام .. وخرجـت معطرة ، محلولة الشعر ، بادية النضـارة .. وجلست فى غرفتها أمام المرآة تتزين وتمشط شعرها .. ثم انتقت أجمل ثيابها .. ثوبا مخمليا يبرز تقاطيع جسدها وكل ما فيه من فتنة .. وجلست على حافة السرير ، ترتدى جوربا من النيلون فى لون بشرتها .. ومدت قدمها الصغيرة وساقها الجميلة .. وبدت الساق عارية وملتفة وفى لون اللبن الممزوج بالعسل المصفى .. وغطت هذه النعومة حتى الفخذ بجورب ثم تناولت الثانى .. وعندما دق جرس الباب توقفت تتسمع وأصابعها ضاغطة على الفخذ الدافىء .. ثم واصلت رفع الجورب بعد أن أدركت أن الصـوت لايعنيها وأن الشغالة تحادث الجارة ..
      ثم لبست حذاءها ووقفت أمام المرآة .. وكانت النافذة مفتوحة على نهار جميل .. فحركت أنفاس الهواء شعرها .. ونضرت وجهها ، وأجرت الدم فى شفتيها .. والبريق فى عينيها  .. ورأت الثوب المخمـلى قد حدد خطوط جسمها .. الوركين .. والخصر .. وبروز الصدر ..
     وتنفست الصعداء .. وجلست فى الشرفة تتطلع إلى الطريق ..
   وفى الليل كانت جالسة فى الصالة نائمة وعلى خديها الدموع ، بعد أن برحها الانتظار الطويل .. وصحت على حركته وهو يفتح الباب .. وجرت إليه وتعلقت بعنقه وارتمت على صدره وضغطت ، وأعدت مائدة العشاء ..
     وجلسا يتعشيان .. وكانت تلاحظه بعينيها وتقيسه طولا وعرضا .. وتفكر .. ولما فرغا من الطعام .. قدمت له فنجان القهوة وهى تحدق فى وجهه .. فسألها :
     ـ مالك .. لماذا تنظرين الىّ هكذا .. ؟ !
     ـ تبـدو لى .. كأنك لم تحـارب .. ليس فى جسمك خدش واحد .. !
     ـ لقــد كانت فرقتى .. أول فرقــة عبرت القناة ورفعت العلم ..
     وقالت سهير لنفسها أن هذا هو ما قلته للناس فعلا ..
    وردت عليه :
     ـ لايبدو عليك هذا .. !
     ـ لماذا .. ؟
     ـ ليس فى جسمك جرح واحد .. جرح صغير .. !!
     وبدت غير منشرحة .. وعلا وجهها الامتعاض ..
     ـ أكنت تودين أن أعود جريحا أو ماشيا على عكاز .. ؟ !
     وأغمضت عينيها ، واقتربت منـه ، ولامست بخدها خده .. انها حمقاء .. كانت توده جريحا .. أما أن يعود إليها كما هو .. دون حتى الخدش البسيط ..
     فهو لم يحارب كما كانت ترغب .. ! وتتمنى .. أين بسالته .. وأين شجاعته .. ؟ هل انتقم لأطفال مدرسة بحر البقر .. وعمال أبى زعبل وسكان السويس .. والإسماعيلية وبور سعيد .. الآمنين ..؟ هل انتقـم لهؤلاء .. ؟
    وبعد نصف الليل كانت بجواره على السرير .. فى قميص النوم .. نصف يقظة .. وكان هو قد استغرق فى النعاس وانكشف عنه الغطاء .. فأخـذت تضمـه عليــه ، ولامسـت يدهـا شيئا غريبــا تحت " الفانلة " ورفعت الفانلة وكشفته .. فتبينت جرحا بليغا فى الكتف قد تغطى بالضمادات .. وربط باحـكام . وضمته إليها فى عنف .. وجنون .. وهى تضحك حتى استيقظ على قبلاتها وضحكاتها ..




=================================  
نشرت القصة بمجلة الثقافة بالعدد 4 فى يناير 1974 وأعيد نشرها فى كتاب " عودة الابن الضال "  سنة 1993 
=================================


  

















الرجل الصامت

     أحمد إبراهيم ولم يكن هذا اسمه المدون فى شهادة الميلاد .. ولكنه كان اسمه الذى اشتهر به وأصبح لايسمع سواه ولا ينادى بغيره .. حتى نسى على توالى الأيام اسمه الحقيقى ..
     وعندما التقيت به لأول مرة استرعى انتباهى بهندامه الغريب وملامح وجهه الفريدة ، كان رأسه كبيرا .. وجبهته عريضة .. وأهدابه غزيرة كثة وعيناه ضيقتين تلتمعان بحدة .. وأنفه قصيرا .. وشعر رأسه أسود خشنا كفروة الخروف ..
     وكان يعمل طاهيا فى بيت ضابط النقطة وفى بيتى ، وفى بيوت كثيرة فى الحى .. وما كنا جميعا ندرى كيف تتاح له كل هذه المقدرة ..
     ولكنه فى الواقع لم يكن طاهيا بالمعنى الدقيق لصاحب هذه الصفة .. بل كان لايعرف إلا صنفا واحدا من الطعام يطهوه فى كل البيوت .. وكنت أجد الكفاية فى أن يجىء إلى شقتى يومين فى الأسبوع يطهو فيهما وينظف البيت ..
     وأحسب ضابط النقطة كان يفعل مثلى .. ويترك ما بقى من الخدمات للعساكر ..
     ولا أدرى كيف وقع عليه الضابط .. أما أنا فقد وقعت عليه فى عصر يوم وأنا راجع من الجامعة ونازل من الترام فى دوران فم الخليج ..
     وكان معى كراسة المحاضرات فى يد .. وفى يدى الثانية بطيخة اشتريتها بقرشين من الميدان .. فأشفق على منظرى وحمل عنى البطيخة إلى البيت ، ومن وقتها لازمنى ..
     وكان يرتدى بدلة عسكرى كاملة .. السترة سترة ضابط والبنطلون بنطلون رجل من رجال السوارى .. ضيق محبوك .. والسترة واسعة مهلهلة .. مفككة الأزرار منفوخة الجيوب ..
     فكان منظره مضحكا لكل من يشاهده ، ولكن ما من شخص كان يجرؤ على الضحك عليه ، لأنه كان مرهوبا من الحى كله لمجرد التصاقه بالنقطة ولأنه يخدم الضابط ..
     ولم يكن الضابط الشاب مكروها ، بل كان محبوبا طيب المعشر .. ولم يكن من طباعه أن يحتجز أحدا من الناس فى النقطة إلا فى حالات الضرورة التى يتطلبـها الموقف .. بل كان يتصرف بالحسنى والمرونة والكياسة فى غالبية الحالات العارضة ..
     وظل هذا الطبـع الخـير يلازمه فى أثنـاء المظاهرات التى كانت كثيرة فى هذه الحقبة من حياتنا .. والتى كانـت تأتى حشوده من الجيزة ، مركز تجمع الطلبة ، وتعبر كوبرى عباس .. إلى كوبرى الملك الصالح .. وعنـد دوران فم الخليج ، كان الضابط يفرقها بالكلمة الطيبة والجلد على مغالبة الموقف .. قبل أن تصـل إلى مدرسة الطب فى شارع القصر العينى .. وكان دائما يبعد الكونستبلات الإنجليز عن الاحتكاك بالطلبة وإثارتهم .. ويتصرف بلباقة .. وبجانبه يقف إبراهيم فى بدلته العسكرية ، طويلا صامتا ، كأنه الجنرال الذى يكتفى بإصدار الأوامر مرة واحدة .. ثم يطبق بعدها فمه إلى نهاية الجولة .. وما أظن إلا أن حدة الطلبة كانت تتكسر على طلعته وزيه الغريب .. وتخبو مرة واحدة .. وفى غمضة عين تصبح النار المشتعلة رمادا وهشيما ..
     وكان إبراهيم يستريح من عناء كل الأعمال بعد الغروب ، ويتبختر مزهوا فى المنطقة بين كوبرى الملك الصالح ودوران فم الخليج .. ويفرض أتاوته على المعدية .. وعلى الباعة الجائلين ..
     وإذا أرخى الظلام رواقه ، أصبح شاطىء الترعة الذى يخيم عليه الشجر الضخم الملتف رهيب الوحشة فى الليل .. شديد الظلام مرعبا .. حتى لاترى موضع قدميك بعد ثلاثة أقدام .. لأن هذه المنطقة لاتضاء بالمصابيح اطلاقا ، كما لاتوجد حوانيت فى الواجهة المقابلة تخفف من وطأة الظلام .. بل كانت هذه الرقعة الكثيفة الأشجار خالية تماما من الدكاكين .. وحتى المنازل المتناثرة هنا وهناك كانت صامتة رمادية شهباء خرساء .. تضفى ظلا كئيبا موحشا على الشارع كله ..
     ويحدث أن يصدم الترام ، أو تدهس سيارة عابر سبيل وتلقيه تحت الشجر ، أو يطعن شخص غريمه فى هذه الظلمة الرهيبة ..
     وعندما يبلغ الحادث للنقطة يكون ابراهيم فى خطف البرق قد نفض جيوب المصاب .. قبل أن يأتى المحقق أو تصل عربة الاسعاف ..
     وكان يلتذ من هذه العملية حتى وإن لم يجد فى الجيوب غير بضعة قروش قليلة .. ويعد هذا العمل مغامراته الكبرى .. ويترقب الحوادث ويشتمها من بعيد بلذة عارمة ..
     وكان يحكى لى كل ما يجرى ويعترف بعملية السطو الليلية هذه وهو هادىء الملامح تماما .. كأنه يقوم بعمل مشروع ..
     ولما أبديت له سخطى ونفورى من فعله .. قال فى سخرية :
     ـ إذا لم أسرقهم أنا سيسرقهم غيرى .. قبل أن يصلوا إلى المستشفى .. أو إلى المشرحة فى زينهم .. هل تتصور أنه يمكن أن توجد أمانة فى هذا الجو ..؟
     ـ لماذا لا ..؟
     ـ ان هذا مستحيل تماما .. الحياة غير الذى تقرؤه فى الكتب يا عبد الحميد أفندى .. عندما تنام عين الإنسان يتحرك الشيطان .. ويتحرك بكل ضراوة .. وسم هذه خسة .. ولكنى أفعلها .. وسأظل أفعلها ..
     وقد عجبت لهذه الأفكار السوداء فى رأس إبراهيم .. وقدرت أن طفولته كانت قاسية ومرة .. حتى جعلته هكذا ..
     ورغم هذه النزوة التى كان يندفع إليها فى الليل ، وهو مسلوب الإرادة تماما .. فإنه كان فى منتهى الأمانة فى كل ما يتسوقه لى من أشياء .. ولا يزيد مليما واحدا ، بل كان يتحمل المشقة ويذهب إلى حي السيدة .. ليشترى لى الأجود والأرخص ويوفر بضعة قروش فى كل مرة ..
ومن البيوت التى كان يخدمها .. شقة فى الدور الرابع فى نفس العمارة التى كنت أقيم فيها .. وكانت تسكنها سيدة ومعها بناتها الثلاث وكن جميعا يلبسن السواد فى الليل والنهار .. ووجوههن شاحبة حزينة ..
وكانت هذه الأسرة ضحية لرجل اشتعلت فى رأسه الوطنية ـ منذ الصبا
ـ وأخذ يكافح الاستعمار الإنجليزى بكل الوسائل .. وحدث أن وقعت حادثة اغتيال لبعض كبار الإنجليز فى مدينة القاهرة فاتهم فيها .. وأعدم .. ونسى الناس الأرملة وبناتها نسوهن تماما .. وعشن بعد عائلهم فى فقر وحزن ..
وعرفت من إبراهيم أنهن يعشن من دخل ضئيل ولولا هذا لمتن من الجوع .. وكنت كلما شاهدتهن أشعر بشىء ثقيل يحط على قلبى ويكاد يسحقه .. ويضاعف من ألمى أننى كطالب فقير لا أستطيع أن أفعل لهن شيئا..
وكنت أتساءل كيف نسيهم الناس ونسيتهم الأحزاب .. ثم أدركت السبب .. كان الخوف من بطش الإنجليز وإرهابهم يبعد الناس عنهم .. لقد أمات الإرهاب كل مروءة وشهامة فى طباع البشر .. وقتل الخوف كل خير فى الإنسان ..
وإلى جانب هذه الأسرة التاعسة التى نسيها الناس .. يعيش فى القاهرة نفسها المهرجون والخونة والمتجرون فى الوطنية .. يعيشون فى القصور ويكنزون الأموال ..
وكان إبراهيم الذى لا يعبأ بالطعام ، ولا بالشراب ، ينام كيفما اتفق فى مدخل العمارة .. أو على البسطة التى أمام شقة الأرملة وبناتها .. يفرش حصيرا ويتمدد .. وكثيرا ما كانت تنتابه حالة اكتئاب حادة تجعلنى فى حيرة من أمره .. وفى أثناء هذه الحالة يكون طعامه رديئا .. وطباعه متغيرة ..
وكان يتقاضى منى جنيها واحدا فى الشهر نظير خدمته .. ولا يطلبه إلا إذا أعطيته له .. فلم يكن فى حاجة لنقود لطعامه ، أو ملابسه لأنه يأكل فى البيوت التى يشتغل فيها ويرتدى الملابس القديمة .. ويوما طلب منى هذا الجنيه وهو يبدى أسفه ، وعلى وجهه الخجل ، فأعطيته له ولم أسأله عن السبب .. فتناوله وخرج فى الحال ..
وقد جعلنى هذا أراقبه من النافذة .. ورأيته بعد ساعة يدور فى الميدان ، وبجواره طبيب الحى ممسكا بحقيبته ..
ثم وجدته يصعد به إلى شقة الأرملة ..
وحدث ما جعله يدخل قفص النقطة .. وهو الذى كان يتفرج على المحجوزين فيه ويسخر منهم .. ذلك أنه شاهد شابا خليعا يلاحق كبرى بنات الأرملة .. تحت الشجر .. ويمسكها من معصمها فى غبش الظلمة .. فصرخت الفتاة وكان إبراهيم يعس كعادته فى هذه الجهة .. فجرى على صوتها وأمسك بتلابيب الشاب .. وكان مع هذا نصل حاد أراد أن يطعن به إبراهيم .. فانتزعه منه إبراهيم ، وهو فى ثورة غضبه على الفتاة ، وطعنه بقوة وسقط الشاب ..
وتجمع الناس فى الظلمة .. وقد روعهم المشهد الدامى .. ولكن إبراهيم تقدم وحده دون أن يمسك به إنسان .. ودخل النقطة ..
وروت الأرملة كل شىء عنه بعد ذلك .. وكيف أنه كان يعطيهم كل ما كان معه من نقود ، ويحرم نفسه من كل الأشياء ..
وأدركت أنا ، بعد اعترافها هذا ، أنه كان يعطيهم حتى النقود التى كان يجمعها من جيوب المصابين فى الحوادث ..






===============================   
نشرت القصة فى مجلة الثقافة عدد مارس 1976 وأعيد نشرها فى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
================================










                                   الغزال               


     أخذت ريح الخريف تهب خفيفة ندية ، تداعب غصون الأشجار الصغيرة التى تحيط بالمحطة ، وترفع أطراف الفساتين الحريرية لكواعب من الحسان تناثرن كالورود الجميلة على رصيف محطة « سيدى جابر » فى انتظار القطار ..
     وتأخر القطار عن ميعاده مدة طويلة ، فظهر القلق على وجوه الركاب ، وكانت « سميرة » أشدهم قلقا لأنها تتعجل السفر إلى القاهرة .. فقد افزعتها البرقية التى أنبأتها بمرض والدتها ، ومزقت أعصابها ، حتى وإن لم تشر إلى خطورة المرض ، ولكن مجرد ورودها فيه الكفاية لاضطرابها ..
     وكان « خليل » يود أن يرافق زوجته لولا أنه يقوم فى هذه الليلة بنوبة عمل ليس فى أمكانه التخلف عنها .. ولم يجد أمامه الوقت الكافى لأن يعتذر أو يأتى بالبديل ..
     وقبل وصول القطار لمحت « سميرة » صديقتها « ثريا » واقفة مع سيدة أكبر منها سنا على نفس الرصيف .. فأسرعت كل منهما تسلم على الاخرى فى حرارة وشوق ..
      وكانت  « ثريا » تودع خالتها المسافرة إلى القاهرة أيضا .. فانشرحت « سميرة » لأنها وجدت رفيقة لها فى السفر .. والتقت بصديقتها القديمة « ثريا » مصادفة على المحطة بعد انقطاع طويل الأمد ..
     ووقفن يتبادلن التحية ويتحدثن عن تعب السفر وتأخر القطارات حتى وهى قادمة من « المخزن » مع أن موسم الصيف قد انتهى وحركة السفر أصبحت خفيفة ..
     وأخيرا دخل القطار الكئيب المحطة وصعد إليه المسافرون .. وبعد أن تحرك وصفر .. شعر خليل أنه هو وثريا وحدهما على الرصيف الطويل .. وقد خلت المحطة من المودعين جميعا ..
     وابتسما بعد أن أحسا بالموقف .. ولكنهما مع ذلك ظلا فى مكانهما على الرصيف صامتين دون أدنى حركة ..
     وأخيرا فتح خليل فمه وقال بصوت خافت وهو يشير بيده :
     ـ تفضلى ..
     وخرجا من المحطة ..
     وكانت الشمس مصفرة ، وضوؤها الغارب ينعكس فى نعومة على زجاج النوافذ .. والهواء الرقيق يداعب وجه « ثريا » الوردى فيفتح ثغرها قليلا ويحرك خصلات شعرها بمثل الرقة التى فيها ..
     وسألها خليل بعد أن جاوزا الميدان ، وعيناه إلى أهداب عينيها وقد بدأت تطرف من شعاع الشمس ..
     ـ إلى أين يا ثريا هانم .. ؟ بيتكم فى « جليم » .. ؟
     ـ أبدا .. فى مصطفى باشا ..
     ـ اتسمحين لى بأن أوصلك .. ؟
     ـ أين ركنت العربة .. ؟
     ـ سنركب تاكسى ..
     ـ لا .. شكرا .. أنا ذاهبة إلى محطة « الرمل » اشترى شيئا لماما ..
     ـ وأنا أيضا ذاهب إلى هناك ..
     ـ اذن هيا ..
     وأشار إلى تاكسى ..
     فاعترضت بسرعة :
     ـ لا موجب له .. سنركب الترام .. كما اعتدنا ..
     وركبا ترام « النصر » ووجد مكانا خاليا فى الدرجة الأولى فأجلسها فيه ، ووقف بجانبها يتأملها فى صمت ..
     كانت ترتدى فستانا بنيا من قطعة واحدة ، يحتضن قوامها الرشيق ، ويبرز فى جلستها المستقيمة جمال ساقيها ، وامتلاء فخذيها ورقة خصرها واستدارة كتفيها ..
     وكان وجهها الطويل أبيض خالص البياض ، فى نعومة كأنه ما وقعت عليه الشمس ولا غطس فى ماء البحر ..
     وكان ظل ابتسامة يزحف على وجهها بين لحظة وأخرى ، ويكسر فى فتحة عينيها المتألقتين فى سواد ممزوج بالاخضرار الخفيف ، الذى يذهب ويجىء ، كلما تفتحت النفس ، وجاشت العاطفة ..
     كان ظل هذه الابتسامة يغطى وجهها كله ، وهى تراه لا يتحمس للجلوس كلما خلا مقعد فى طرف العربة بعيدا عن مكانها ..
     وظل يتباطأ وهو جامد فى موقفه ، فيتيح الفرصة لغيره ليشغل المقعد فى لهفة جعلته يضحك ..
     لقد أصبح الناس يتصارعون على أتفه الأشياء طرا فى الحياة .. وبرزت عيونهم وأنانيتهم من اللهفة على هذه الصغائر .. فلا أحد يبدى حركة فيها تأدب ، ولا يقوم رجل لسيدة .. ولا شاب لشيخ ..
     لقد طحنتهم الحياة فى دوامتها .. فبرزت أنانيتهم ، وظهر جشعهم .. وكل ما فى نفوسهم من صغار ..
     وظل « خليل » فى مكانه واقفا ، وهذه الخواطر تدور فى رأسه .. وتكاد يده اليمنى تلمس كتف « ثريا » وتشعر بنعومة بشرتها تحت الثوب المخملى ..
     وأخذ يتأملها فى سكون ويملأ عينيه من كل ما فيها من حسن .. وكأنه يلامس بيده جبينها وعينيها وخديها وشفتيها .. ولم تكن فى تقديره .. أكبر من زوجته إلا بسنتين على الأكثر ، ما دامتا كانتا زميلتين فى نفس الكلية ، وتخرجتا فى عام واحد ..
     وسمع صوتها وهو يسبح فى أحلامه :
     ـ أجلس هناك مقعد .. قبل أن يأخذوه ..
     وضحكت ..
     ـ لقد وصلنا الشاطبى ..
     ـ أمامنا .. محطات كثيرة .. أجلس ..
     فطاوعها وجلس ..
     وكانت اشعة الشمس قد سقطت من النافذة القريبة على عينيها ، فأغمضتهما .. وأبعدت وجهها بحركة خفيفة ، وأزاحت خصلة شعرها وامتلأ وجهها بالسكون ..
     ومن خلال هزة للترام تحركت فيها أكتاف الركاب ، أشرق وجهها فى ابتسامة عذبة .. وظلت الابتسامة ترف حتى دخل الترام محطة الرمل ..
***
     وعلى الرغم من أنه قرأ فى عينيها الائتناس بصحبته ، ولكنه سلم عليها فى شارع « سعد زغلول » وافترقا ليتركها على حريتها .. ولأنه لم يكن يستريح أبدا إلى مرافقة النساء فى جولة تسويق .. فقد كان يعانى الكرب من ترددهن أمام الأشياء المعروضة ..
     ومع أن صحبته « لثريا » كانت لمدة وجيزة فإنه أحس بالراحة لها .. وبالانتعاش والحيوية .. فمن خلال فترة لم تتعد رحلة الترام من محطة « سيدى جابر » إلى محطة الرمل .. أحس بدم جديد يتدفق فى شرايينه كما أحس بالبهجة ..
     فقد كانت حياته مع زوجته فى السنتين الأخيرتين يشوبها النكد والملل .. وكان كل منهما قد أخذ يحس بالفراغ وبموات العواطف .. وكلما حاول خليل أن يحرك هذا الجمود ، ويبعث الحياة والحرارة فى الجو المحيط بهما .. أخفق فى عذاب ..
فقد كانت زوجته مشغولة دائما بزيارة أقاربها العديدين ومجاملتهم فى الجنائز والافراح .. وإهمال شئونه .. وحاجات بيتها .. فلم يأسف كثيرا على سفرها وان أسف على مرض والدتها ..
     ولذلك أحس فى رفقته القصيرة « لثريا » بهزة فى نفسه .. تفتحت لها مشاعره .. وجال جولة فى المدينة ثم رجع واتخذ طريق البحر وجلس من وراء الزجاج فى « كافيه دى لابيه » على الكورنيش ..
     وكان الجو صحوا ممتعا .. والبحر يرقص موجه ، والمصابيح الكابية الضوء ، قد أخذت تتلألأ فى المنازل والشوارع ..
     وعادت صورة « ثريا » إلى ذهنه .. عادت وهو معها فى الترام وفى الشارع .. فى جلستها الناعمة .. وفى وقفته المتأنية .. وفى السلام عليها سريعا ثم فراقها ..
     وأخذ يلوم نفسه لأنه تركها هكذا ولم يرافقها فى جولاتها إلى النهاية ، ولم يعرف عنوانها ولا محل عملها .. ولا اشتم من حديثها مدى علاقتها بزوجته ..
     ثم خفف من حدة اللوم .. لما استقر رأيه أخيرا على أن ما فعله فى أول لقاء هو عين الصواب ..
     ومع كل التبريرات التى استراح إليها ، وهو جالس فى المقهى ، فإنه عندما ذهب إلى بيته وأحس بالوحدة ، رجع يلوم نفسه أشد اللوم على خجله وسوء تصرفه ..
***
    وكانت « سميرة » قد حدثت خليل وهى مسافرة ، بأنها سترجع فى مدة لا تتجاوز الأسبوع .. وتتصل به فى الصباح فى مقر عمله فى الشركة أو فى المساء عند بعض أقاربه الذين فى بيتهم تليفون .. ان تعذر الاتصال فى مقر العمل ..
     فلما لم تفعل ذلك حادثها تليفونيا فعلم أن والدتها فى حالة خطرة .. وكانت تتحدث وهى تشرق بعبراتها .. فسافر فى الصباح التالى ليعود المريضة .. ورجع وحده إلى الإسكندرية بعد أن لمس الحالة عن قرب ..
***
     وللمرة الأولى فى حياته الزوجية التى بلغت خمس سنوات .. بدأ يعيش وحيدا فى البيت ينظفه بيده ويأكل فى الخارج لأنه لم يكن فى بيتهم خادم .. وكان يضيق ذرعا بإعداد أبسط أنواع الطعام ..
     فأخذ يقضى الفراغ فى الجلوس على المقاهى وارتياد الملاهى .. وأكثر من التردد على السينما .. حتى لم تكن تفوته رواية واحدة ..
     وفى أمسية من أمسيات الخميس شاهد « ثريا » جالسة أمامه فى الشرفة بسينما « راديو » ومعها رفيقة فى مثل سنها ..
     ولم يحادثها أو يجعلها تشعر بوجوده إلى أن انتهى عرض الفيلم .. وظل بعيدا عنها وهى تهبط السلم إلى ردهة السينما وهو يغالب عواطفه ..
     وكما يحدث فى مثل هذه المواقف ، بسبب لا يدرك تعليله أحد على الأطلاق استدارت « ثريا » وبصرت به عن قرب وفاض وجهها بالسرور ، وانتحت جانبا تنتظر لتفسح المجال لطابور الخارجين .. ولما رأى ذلك منها أسرع إليها مرحبا .. وقدمت له صديقتها فى عبارة فيها ذكاء ولباقة ، وخرجوا ثلاثتهم إلى الشارع ..
***
          وكان الجو جميلا ويغرى بالتنزه .. والمدينة تسبح فى الأنوار الزرقاء الخفيفة ..
     وساروا على أقدامهم متمهلين مختارين الشوارع الجانبية التى تقل فيها الحركة فى مثل هذه الساعة ..
     ثم اتجهوا إلى محطة الرمل .. وهناك أكلوا أكلة خفيفة وتحدثوا فى مرح .. وكانت « ثريا » منطلقة ، ووجنتاها تتوردان ، كلما سمعت نكته لا تستطيع أن تطلق الضحكة المدوية لها فى مكان عام .. أما صاحبتها فكانت تكتفى بالبسمة العريضة دون أن تعلق بحرف ..
     وركبوا جميعا ترام الرمل إلى بيوتهم ..
     وكان يتحتم على « خليل » فى هذا الليل وفى جو الحرب والغارات أن يرافق « ثريا » إلى منزلها بعد أن نزلت صديقتها فى محطة الابراهيمية ..
     وعرف أنها تقيم فى الجانب الشرقى من حى مصطفى باشا .. فسارا الهوينى بعد أن نزلا من الترام وتخطيا طريق الحرية ..
     وكان يشعر بالنشوة ، ويود أن يمتد الطريق الضيق الذى أخذ يلتوى فى صعود ، إلى ما لا نهاية ويصبح كبيت جحا يدوران فيه ولا يخرجان منه أبدا ..
     ولم يشعر من فرط انتعاشه بلسعة البرد الخفيفة التى أخذت تسرى فى الجو  ..
     وكانت هى لا تزال ترتدى ملابس الصيف .. فأشفق عليها من البرودة .. ولكنها كانت منتعشة مثله ودافئة ..
     وأحس بكل مشاعره وجوارح قلبه بأنها مستريحة إلى صحبته .. وأبدت أسفها على غياب « سميرة » ومرض والدتها فى نغمة حزينة صادقة ..
     وبلغا البيت ، وكان من طابقين فى صف من الفيلات المبنية على طراز متقابل فى الشكل والارتفاع .. وفى حى هادىء يبعد جدا عن حركة الترام والاتوبيس ..
     وصعد معها حتى الطابق الثانى الذى تسكنه ..
    وكانت تود أن تجعله يدخل ويسلم على والدتها .. ولكنه اعتذر ..
     وعندما خرج إلى الطريق مرة أخرى ، أحس ببهجة جعلته يسرع فى سيره وهو يواجه رياح الليل القوية المحملة بهواء البحر ..
***
    وفى صباح السبت جاءته برقية بوفاة المريضة .. وعزاه زملاؤه فى الشركة وسهلوا له الحصول على الإجازة سريعا ليحضر الدفن .. فهى أم زوجته ولابد من أن يسير فى الجنازة ..
     واستقبلته زوجته بالثوب الأسود والعينين المتورمتين من البكاء ..
     ومكث فى القاهرة ثلاث ليال .. نام فيها وحيدا فى غرفة خصصت له .. ولم تجرؤ زوجته أمام أخواتها وقريباتها على النوم فى فراشه .. وأمهن ميته .. وغاظه ذلك وفجر كراهيته لكل هذه التقاليد البالية ..
     وكانت تقرأ فى عينيه الاشتياق والرغبة .. ولكنها جبنت وبعدت وتركته فى عذاب ..
***
     ورجع إلى الإسكندرية وحده وترك زوجته تسوى أمور الميراث مع أخواتها وتحضر الخميس مع أهلها تزور فيه المقبرة .. ثم الخميس الذى بعده .. وقبل ذلك لا تستطيع ترك الأسرة ..
     ووافقها خليل على رغبتها ووعدها بأن يحضر أول « خميس » .. ويعود بها فى الخميس التالى إلى الإسكندرية ..
***
     ورجع إلى الإسكندرية فى قطار الليل .. وفى الصباح اتصلت به « ثريا » وهو فى مكتبه تعزيه .. ولم يدر كيف عرفت تليفونه .. ثم خمن أنها عرفته من زوجته .. وكان بينهما الحديث ..
      وحدثته أنها اتصلت بزوجته تليفونيا لتعتذر لها عن سبب عدم سفرها للقاهرة لتعزى لأنها لا تستطيع ترك أمها وحدها .. وأنها اتفقت مع سميرة أن ترسل له الخادمة .. لتنظف له البيت من حين إلى حين .. لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك . وسميرة لا تحب أن تدخل الأرجل الغريبة الشقة .. فى مدة غيابها عن البيت .. وسترسل له الشغالة اليوم فى الساعة الخامسة ..
     وحاول أن يثنيها عن عزمها فلم يستطع ..
     وجاءت الشغالة فعلا ونظفت الشقة .. ورفضت أن تتناول منه أى هبة ..
     وأصبحت تجىء كل يومين وأعطاها المفتاح لتجىء فى الوقت الذى تختاره ويكون موافقا لها .. وسهلت له الكثير من أمور الطعام التى كان يشكو ويتضايق منها .. وكان يود أن يسألها عن « ثريا » ليعرف القليل عنها .. ولكن لسانه لم يطاوعه أن يستقصى ذلك من خادم ..
     وعندما كانت خادمة « ثريا » تروح وتجىء فى بيته وتدخل من غرفة إلى غرفة ..
     كان يتصور أن سيدتها معها .. وأنه يسمع صوتها ، وهى تناديها وتطلب منها فعل هذا الشىء وترك ذاك .. وأنه يسمع وقع اقدامها الخفيفة فى الصالة..
     وعجب لكل هذه التخيلات ولم يجد فى نفسه التعليل لها .. فأنه لم يفكر مطلقا فى أن يوجد أية علاقة بينه وبين « ثريا » أكثر من التعارف الذى حدث فى المحطة .. وأكثر من اللقاء العابر الذى حدث بعد ذلك فى السينما ..
     وظلت « ثريا » فى كل هذه الحالات بالنسبة له صديقة لزوجته أو زميلة لها فى الدراسة على الأكثر ..
     ولكن لماذا كل هذا التفكير فيها ؟ ألأنها وحيدة فى الإسكندرية مثله .. ؟ وغير متزوجة كما تصور .. ؟
***
     وحدث ذات مرة وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء .. أن ترك نفسه مع سير الترام ونزل فى محطة مصطفى باشا ..
      وسار فى طريق الحرية مقبلا ومدبرا أكثر من ثلث الساعة .. ثم اتجه وهو مسلوب الإرادة إلى الحى الذى فيه بيتها ..
      ومضى إلى الشارع متماسكا أولا متحكما فى أعصابه ، ثم بدأ يشعر بالاضطراب .. وبتغير ضربات قلبه .. ودارت فى رأسه الخواطر وأحلام أشبه بأحلام المراهقين .. ثم أحس بالعرق يتفصد على جبينه .. وألفى من الحماقة وهو يقترب من البيت أن يطرق بابها ..
     ما الذى ستقوله هى أو تقوله أمها لو واجهها فى مثل هذه الساعة .. ؟ وبأى علة سيتعلل .. ؟
     وارتد فى الشارع الملتوى الصامت القليل الضوء ، وهو يشعر بجلجلة فى رأسه .. وان رءوسًا قبيحة أطلت من النوافذ ، وأصبحت تضحك عليه بصوت مدو ..
     وعندما رجع إلى بيته ونام فى فراشه ، أحس بأتعس ليلة قضاها فى حياته..
***
     وفى عصر يوم جاءت خادمة « ثريا » لتنظف البيت .. وجدته جالسا فى الصالة فحدثته قبل أن تأخذ أنفاسها من صعود السلم أن ستها « ثريا » كانت راكبة الترام معها ..
     ونزلت فى الإبراهيمية لتذهب إلى مكتب التلغراف القريب من هناك ولما سألها « خليل » عن السبب .. عرف أنها ذاهبة لترسل برقية لاخيها الدكتور فى السويس الذى لم يتصل بهم منذ الغارة على السويس ..
     ولم يكن « خليل » يعرف قط أن لها أخا طبيبا وهو الآن فى مستشفى السويس .. كما حدثته الخادمة ، وأنه كان دائم الاتصال بأمه وأخته ويجىء فى الشهر مرة ومرتين ، ولكنه منذ الغارة العنيفة التى حدثت منذ أربعة أيام على مدينتى السويس وحى الأربعين لم يتصل بهما ولذلك اضطربتا وقضيا الليل فى بكاء ..
     وتأثر « خليل » لما سمعه من الخادمة ووجد من واجبه كرجل أن يرتدى ملابسه على التو ويخرج ليتصل بهما تليفونيا ويطمئنهما ..
     ولما تناول السماعة كان صوت « ثريا » .. غير طبيعى رغم أنها حاولت أن تكتم حزنها لما سمعت صوته .. وبعد حديث قصير عن اخيها .. ومحاولة اطمئنانها .. استأذنها فى زيارتهما فى البيت ليطمئن والدتها .. فرحبت بالزيارة ..
     ووضع السماعة وهو يشعر براحة كبرى ..
***
     ولما دخل البيت استقبلته « ثريا » مرحبة .. ولكن البكاء كان لا يزال أثره فى عينيها ..
     وجاءت الأم وهى سيدة نحيلة فوق الخمسين وكانت ترتدى ثوبا أسود وعلى وجهها الاكتئاب وسلمت عليه بيد ناعمة .. وعيناها الخضراوان تحدقان فيه جيدا ، كأنها تقارن بين الصورة التى كونتها عنه من حديثها مع ثريا ، وبين الحقيقة التى أمامها ..
     وبدت فى فستانها الأسود عصرية مع وقار سنها ، فقد كانت مقصوصة الشعر متأنقة الزى فى انسجام رائع والحذاء فى لون الفستان .. والزينة خفيفة ولكنها بادية على الشفتين الحمراوين والخدين الاسيلين ...
     وكانت عيناها لازالتا تتألقان بالبريق والسواد المائل إلى الاخضرار .. والعدسة الفاحصة فى استرخاء ، يطل منها الحنان كله ..
     وقد رأى أنها كانت جميلة فى شبابها بل فتنة بين النساء ..
     وكان البيت منسقا نظيفا .. وأثاثه يدل على ذوق عصرى .. ولم يكن يصل إلى حد الفخامة .. ولكنه كان من طراز عصرى جميل بالغ حد الروعة فى التنسيق ..
     سر جدًا لأنه دخل بيتا مصريا هادئا لم يسمع فيه جلبة الأطفال وصياحهم .. ولا الفوضى التى تطالعه كلما زار بيت حماته فى القاهرة ..
     وشرب القهوة وأخذ بكل الوسائل يطمئن الأم .. ولكنها لم تطمئن ..
     قال لها « خليل » بلهجة قاطعة :
     ـ إذن سأسافر إلى السويس .. غدا صباحا .. واجعلك تطمئنين ..
     وقالت ثريا ...
     ـ وسأسافر معك ...
     وقالت الأم ...
     ـ سنسافر نحن الثلاثة ..
     وقالت ثريا ...
     ـ لا داعى لتعبك يا ماما ..
     ـ أبدأ .. لابد أن أراه .. هناك ...
     وسألت ثريا فى رقة .. وكان قد فاتها شىء لم تلاحظه أولا ...
     ـ وكيف تترك عملك .. ؟  ربما لا يسمحون لك بأجازة .. ؟
     ـ سأسافر مهما كانت الظروف ..
     فردت الأم :
     ـ وتتعب نفسك معنا .. با ابنى .. ربنا يخليك ..
     ـ هذا .. أقل واجب ...
     واتفقوا على اللقاء فى الصباح فى محطة سيدى جابر .. ليأخذوا أول قطار .. ديزل الساعة السادسة صباحا ..
***
     وفى الصباح رأى « ثريا » واقفة وحدها خارج المحطة تنتظره باسمة .. وسر جدا وأدرك أن أمها عدلت عن السفر ..
     ولما اقترب منها وضغط على يدها انفجرت ضاحكة ..
     ـ ما الذى جرى ... ؟
     ـ إبراهيم جاء بالليل .. ونائم فى البيت الآن ...
     تقصد أخاها الطبيب ...
     فقال خليل بمرح :
     ـ الحمد للّه ...
     واستطردت ثريا :
     ـ وجئت مبكرة قبلك حتى لا تقطع التذاكر ..
     ـ هكذا قبل الشمس ...
     ـ لم أذق للنوم طعما ...
     ـ طبعا .. من  الفرح ...
     ـ الواقع أنا فرحانة .. ومتضايقة .. فرحانة لقدومه ولنطمئن .. ومتضايقة لأنى كنت أود أن أسافر معك ..
     ونظرت إليه بعينيها المتألقتين فى ضوء الصباح الرمادى ..
     فأمسك بيدها ودار فى الميدان الفسيح وهو شاعر بقلبه يخفق لأول مرة فى وجيب متصل وبأن جسمه قد خف حتى يكاد يطير ..
     وبدأت الشمس تغمر المكان فى هذه اللحظة ..
***
     وعند محطة الترام سألها :
     ـ أراجعة إلى البيت .. ؟
     ـ طبعا .. فأمامى ساعتان على البنك ..
     ـ البنك فى محطة الرمل .. ؟
     ـ فى شارع شريف ...
     ـ جميل .. وأنا قريب للبنك فى شارع سيزوستريس ...
     ـ حقا ... ما أجمل هذا ...
     ولما جاء الترام .. ركب معها ...
     فقالت بدلال .. وعيناها تتطلعان إليه :
     ـ لماذا التعب ... اذهب إلى عملك ...
     ـ أمامى ساعتان ...
     ـ روح .. واكمل نومك ...
     ـ أشعر براحة أكثر .. وأنا معك ..
     واحمر وجهها قليلا ، وبدت فى عينيها رقة ساحرة .. وحنان دافق .. ونكست رأسها .. لتخفى كل الانفعالات التى تبدو على وجه العذراء وهى تسمع كلمات الاطراء الخفيفة ..
     ولما نزل من الترام فى محطة مصطفى باشا .. رافقها حتى اقتربا من باب بيتها ..
     وكان الصباح جميلا مشرقا ، وخيوط الشمس الذهبية اخذت اشعتها تسطع على زجاج النوافذ .. والشوارع بدت خالية من المارة ، ومن حركة السيارات الثقيلة .. فتجعل المرء يحس بالراحة ، وهو يتنفس ، ويشعر بكيانه ووجوده كإنسان يميل بالفطرة إلى السكون ..
     ولما أمسك يدها مسلما وعاد وحيدا فى الشارع الأسفلت الضيق المائل إلى الالتواء والممعن فى السكون .. لم يكن فى الطريق الخالى أحد سواه ..
     وكان لا يزال فى كيانه الإحساس بوجودها إلى جانبه .. وقع خطواتها الخفيفة .. ونغمة صوتها الناعمة .. وضحكاتها التى لها رنين الفضة .. واللفتة الجانبية وهى تتطلع إلى وجهه كلما أسمعها كلاما تود أن تملأ به جوانح قلبها . وترى حركة الشفتين وهما تنطقان به .. وكانت تلك هى عادتها المحببة إلى نفسه ..
***
     وفى صباح اليوم التالى بعد وصوله إلى المكتب مباشرة سمع صوتها فى التليفون .. وحملت إليه شكر والدتها على ما كان قد اعتزمه من السفر واهتمامه بأمر أخيها ..
      وسألها عنه فقالت له بأنه خرج مع والدتها لتسوق بعض الحاجات قبل سفره ..
     وسأل « خليل » عن موعد خروجها من البنك ..
     وتقابلا فى الساعة الثانية والربع عند حلوانى منعزل فى شارع شريف .. ومكثا عدة دقائق لم يشعرا فيها بالزمن ولا بالوجوه التى حولهما ..
     وقال لها :
     ـ أننى لم أشعر قط بالوحشة لسفر سميرة بسببك ..
     ـ ولكنها وحشتنى .. لقد طال غيابها .. متى ستسافر لتعود بها ..
     ـ ربما جاءت وحدها .. يوم الخميس .. لقد تعبت من السفر .. ومن المجاملات فى الجنائز ..
     ـ ولكنها والدتها ..
     ـ أعرف هذا .. ولكن ما الذى يفعله الندب والبكاء واللطم .. والخميس.. والأربعين . هل يرد ميتا .. ؟ أن حياتها كلها جنائز وقد ضقت ذرعا بهذا ..
      ـ أن أخى إبراهيم مثلك تماما .. يكره هذه التقاليد .. ولكنها زوجتك .. والأحسن أن تذهب إليها .. وتمسح دموعها .. وتعود معك ..
     ـ أهذه رغبتك .. ؟
     ـ طبعا ..
     ـ سأنفذها أذن ارضاء لك ..
     وضحكت ..
     وافترقا على لقاء فى مساء الاثنين .. بعد سفر أخيها إلى السويس ، لأنها تلازمه فى أجازته القصيرة وتنافس والدتها فى خدمته وتطويقه بالحنان ..
***
     وقد التقيا فى كازينو « ماى فير » وجاءت مع غروب الشمس فى جوف البحر .. وكأنها شمس أخرى تطل على الكون .. أو كأنها القمر الذى يطلع بعد غروب الشمس .. ولم تكن الليلة مقمرة .. ولكن قمرها كان يشع على
البحر الهائج والجمال المحيط ..
     وجلسا وراء النافذة الزجاجية العريضة متقابلين ، وعيونهما تحدق واللسانان اخرسان ..
      وشعر فى هذه اللحظة بأنه أحبها .. وأنها تبادله الحب دون أن تنطق بكلمة ..
      كانت عيونهما تتحدث ، وشفاههما وكل جوارحهما تنطق .. وكأنهما كانا فى عناق متصل ثم انفصلا وراحا فى دوامة الخدر الذى يبلد الحواس بعد هذه القبلة .. ثم استفاقا وأحسا بكل ما حولهما بالبحر.. والليل .. والعشاق القليلين الجالسين مثلهما فى سكون يتهامسون ..
     وأخذا يتحدثان الأحاديث المألوفة عن الجو .. والحرب والعمل .. ثم أخذت « ثريا » تحدثه عن خصوصيات حياتها بلسان منطلق .. أحس معه بثقتها المطلقة فيه ..
      حدثته بأنها تزوجت منذ أربع سنوات ، وهى لا تزال تدرس فى الجامعة .. من قريب لها .. رحل إلى الخارج ليكمل دراسته ، ولم تستطع هى السفر معه فى وقتها لأنها كانت فى مرحلة البكالوريوس ..
     وبعد سفره بعام واحد ، فى اللحظة التى انهت هى فيها دراستها الجامعية .. واستعدت للسفر .. جاءها نعيه .. وعاد إليها فى صندوق ..
      وانتابها حزن قاتل .. فهى تزوجته فى نظر الناس ولكنها لم تتزوجه فى الحقيقة .. ولم تحس بالسعادة الزوجية ساعة واحدة ..
     وكانت ملامح وجهها جامدة ، وهى تقص عليه هذا ، وأدرك أنها بكت كثيرا حتى جفت دموعها ..
     وأمسك بيدها فصمتت ..
     وجاشت ذكرياتها الحزينة دفعة واحدة .. فرأى « خليل » أن يغير مجرى الحديث .. وأن يخرجا من المحل ويتمشا على البحر .. فقد أحس بحاجته إلى الحركة وحاجتها بعد هذه الذكرى الحزينة ..
     وعلى البحر اختار الطريق الهابط .. وسارا متشابكين بالأيدى على ضوء المصابيح الخافتة ، وعن يسارهما السور العالى يقيهما من العيون وعن يمينهما البحر الذى تحولت زرقته إلى اللون الأحمر القانى كلما علا موجه وصمت ..
    وكانت الريح الباردة المحملة بأنفاس البحر ورائحة الطحلب .. تمر على وجهيهما وتحرك شعرها .. وتسدله على عينيها .. فمد خليل يده فى رقة وأزاحه عن جبينها .. فتهلل وجهها .. وكانت هذه اللمسة الناعمة ، وهذه اللفتة الضاحكة من عينيها تحتم عليه أن يختمها بقبلة .. ولكنه لم يفعل ..
     ولا يدرى أكان ذلك جبنا منه أم زيادة أحترام لها وهما فى طريق عام .. مهما كان هذا الطريق خاليا وشاحب الضوء ..
     ولما بلغ التقاطع .. كان يرغب فى أن ينحرف إلى اليسار ويسير فى الشارع الواسع المؤدى إلى سيدى جابر .. ولكن « ثريا » رأت أن يواصلا السير على الكورنيش حتى كليوباترا ..
     وكان الليل الحالم يلفهما .. والبحر كأن موجاته تغنى لهما وحدهما أعذب الألحان ..
     واخترقا حى كليوباترا إلى شريط الترام .. الحى الذى كان صخابا فى الصيف ويعج بالمصيفين وبالحركة الدافقة يموت الآن فى الخريف .. وفى الساعة التاسعة ليلا ..
     وعلى الباب وهى تدق الجرس على والدتها تركها .. لم يشأ أن يتركها وحدها فى الليل شبرا واحدا .. أحس بأنه مكلف بحمايتها وابعادها من كل شر ..
***
     وفى الساعة الثالثة من اليوم التالى دخلا السينما .. وقالت لوالدتها انها ستواصل العمل فى البنك لتنجز أوراقا متأخرة ..
     وكانت عواطفها لا تزال مشتعلة اشتعال أبطال الفيلم ..
     وجلسا متلاصقين يحسان بحرارة جسميهما ، وحرارة انفاسهما وضربات قلبيهما ..
     وكان يود أن يميل عليها بقبلة .. ولكن منعه الجوار وازدحام البلكون ، والعيون التى وراءهما وبجانبهما .. وقد كره الجمهور .. لأول مرة .. وكرهه بعنف ..
     وبعد السينما شربا الشاى فى « باستوريدس » ثم ركبا الترام إلى البيت ..
***
     وفى عصر يوم من أيام الاثنين وكان قد تغدى خارج البيت .. أحس وهو داخل بحركة فى المطبخ ، فأدرك أن خادمة ثريا تقوم ببعض أعمالها .. كالعادة .. فتركها فى عملها .. ودخل غرفته ليستريح ..
      وبعد أن خلع بدلته.. وارتدى بيجامته .. مشى إلى دورة المياه ليغسل وجهه .. وفى الردهة الضيقة بصر " بثريا" بلحمها ودمها خارجة من المطبخ .. ففتح فمه دهشا .. وتبادرت إلى ذهنه بأنها جاءت ترافق الخادمة .. عناية به وببيته ..
     ولكنها نحت عنه هذا الخاطر بقولها :
     ـ سنية سافرت تزور والدتها فى كوم حمادة منذ يومين .. ولازم البيت يتنظف .. فجئت أنا ..
     وكان يود أن يقبل فمها الذى نطق بهذه الألفاظ ..
     ـ شكرا .. هذا كثير .. اشعر بخجل لا حد له ..
     ـ لا داعى لهذا كله .. هل تغديت .. ؟
     ـ أجل .. وأنت .. ؟
     ـ نعم تغديت .. وسأصنع لك قهوة ..
     وعادت إلى المطبخ .. وأدرك أنه يلبس البيجامة أمامها وهذا لا يليق .. وفكر أن يخلعها .. ويعود إلى لبس البدلة ..
     وجاءت بصينية القهوة .. ووضعتها فى الصالة فى اللحظة التى رأته يخلع سترة البيجامة ..
     ـ لماذا .. ؟
     ـ سألبس البدلة ..
     ـ ولماذا التعب .. ؟ خذ راحتك ..
     ـ لا .. هذا .. لا يليق ..
     ورأته مصرا .. ومشت إليه وأمسكت سترة البيجامة قبل أن يخلعها .. ولامست يده ذراعها .. فأمسك بها ليمنعها من منعه .. ووجدها ملاصقة به بكل جمالها وكل ما فى جسمها اللدن من فتنة .. فشدها إليه .. وأخذ يقبلها فى شفتيها وعينيها ونحرها بعنف .. ونسيت نفسها لحظات .. وأخذت تبادله القبلات بحرارة .. واستراحت مغلقة عينيها .. فأخذ فى رقة يفك أزرار ثوبها، وهى واقفة ، فأمسكت بيده ، وفتحت عينيها فى توسل ..
     وحاول أن يعانقها بعنف وأن يجرها إلى الفراش .. فوجدها تقاومه بشدة ..
      وسألها والعرق يتفصد على جبينه :
     ـ هل تفكرين فى سميرة .. يا ثريا .. كصديقة لك .. ؟
     ـ أبدا .. ما فكرت فى هذا .. وأنما أفكر فى شىء آخر .. رهيب ..
     ـ ماذا .. ؟
     ـ أفكر فى أخى .. إبراهيم ..
     وأستغرب .. وسألها :
     ـ وما علاقته بالمسألة .. ؟
     ـ لو فعلت ما ترغب فيه .. سيموت .. أن حياته مقرونة بطهرى ..
     ـ وكيف تشغلين رأسك بهذه الأفكار .. ؟
     ـ أنها مسيطرة على تماما .. وهى أحاسيس صادقة .. وقد جربتها ..
     ـ جربتها .. ؟ !
     ـ أجل .. عندما كان توفيق فى الخارج .. وقد عاد بعدها فى صندوق ..
     وغشيهما الضباب .. فتركها وأخذ يروح ويجىء فى الصالة .. وهو فى أشد حالات العذاب ، وهى جالسة منكسة الرأس صامتة .. وفى عينيها دموع لم تحبسها هذه المرة ..
================================  
نشرت القصة بمجلة المصور فى 7/7/1972 وأعيد نشرها فى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993
=================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق